الطيب مصطفى

الجنوب بين سلفاكير وباقان (1-2)


وأخيراً اعترف سلفاكير بأن دولته الحلم تحترق، وهل من شهادة شاهد من أهلها أعظم من تلك التي يقر بها زعيم الدولة ورئيسها؟ فقد قال سلفاكير إن جنوب السودان (جمرة قد تشتعل في أي وقت).. قال إنها جمرة، لكنه لو صدع بالحقيقة كاملة لقال إنها برميل بارود أضرم بعبوة ديناميت شديد الانفجار..
دول الغرب الأوروبي والأمريكي بدورهم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقالت صحيفة (فورين بوليسي جورنال) إن دولة الجنوب (ما كان ينبغي لها أن تكون بأي حال من الأحوال) بما يعني أنه ما كان ينبغي أن تقوم دولة أصلاً في جنوب السودان، ثم قالت معترفة بقصر نظرهم (إن وسائل الإعلام فضلاً عن المجموعات التي دعمت إنفصال الجنوب زعمت عشية ميلاد الدولة الجديدة أن دولة الجنوب ستشهد حقبة جديدة من الازدهار والنمو سيجبر الجميع على الاعتراف بها بما فيهم السودان)!
يا سبحان الله! كل الغرب بعشرات المليارات التي يصرفها على استخباراته لتقصي الحقائق حول ما يجري في جنوب السودان من مشاعر التباغض بين مكوناته الاجتماعية لم يكن يعلم بالحقيقة التي لطالما كتبنا عنها ربما مئات المرات لكن الجميع ما كانوا يعيرون ما نقول اهتماماً بل كانوا يطلقون علينا نعوت التحقير والإدانة، بينما كنا نحن نبصّرهم بما كانت تراه زرقاء اليمامة من شجر يسير في تلك الأحراش ومن الأشواك السامة التي تتدلى بين أغصانه وأوراقه متوعدة الدولة الجديدة بشر مستطير يشرئب كرؤوس الشياطين ليفتك بإنسانها وأرضها.
تلك الأشواك السامة المتدلية من تلك الأشجار هي ما ظلّ ينهش لحم الشمال طوال نصف قرن من الزمان بحرب ضروس قضت أو كادت على الأخضر واليابس وقتلت ودمّرت وعطّلت مسيرة بلادنا التي خدعها المستعمر الذي ورطها في تلك الوحدة المجنونة بين الزيت والنار والقط والفأر والليل والنهار..
ذلك ما كنا ندندن حوله حين اكتشفنا أن الأنجليز بدهائهم ومكرهم لم يلحقوا الجنوب بالشمال رحمة بالشمال إنما تآمراً عليه حيث تعمّدوا تحميله عبء الجنوب بكل عجره وبجره والذي نظروا إليه بعين العطف بعد أن علموا أنه ليس مؤهلاً لصنع دولة مستقلة ذات هوية مشتركة تجمع مواطنيه إنما هو عبارة عن قبائل متفرقة متشاكسة متنافرة لا ولاء لإنسان الجنوب إلا لها، أما الوطن فهو شيء آخر لا علاقة له بتلك القبائل البدائية التي يجمعها بغض الشمال وإنسانه.. بغض أفلح الاستعمار في زرعه في نفوس أبناء الجنوب الذين لم ينعم عليهم بخير إذ تركهم على حالهم البائس منذ أن خلق الله آدم وربما أدنى من ذلك!.
ليس شماتة.. لا والله فالشماتة ليست من طبع الكرام، إنما توضيحاً لأهلنا في الشمال حتى يكف بعض البكائين عن العويل فقد والله كان الانفصال رحمة ينبغي أن نقيم الليل تهجّداً حمداً لله على أن أنقذ الشمال وأهله من جحيم الجنوب الذي لو كنا لانزال نرزح في تلك الوحدة الملعونة معه لكنا اليوم نتلظى بجحيم الحرب التي تفتك بالجنوب اليوم، ويا لها من حرب ويا له من جحيم.. جحيم جعل المتقاتلين في جنوب السودان يجبرون أسراهم من الطرف الآخر على أكل لحوم البشر من القتلى من أفراد قبيلتهم فهل بربكم من وحشية أكثر من ذلك؟.
هل تذكرون باقان أموم؟ بالطبع لا يمكن لأحد في السودان أن ينساه فهو الرجل الذي قال وهو يغادر السودان لأول مرة بعد الإنفصال (ارتحنا من وسخ الخرطوم) (باي للعبودية) (باي باي للعرب) ذلك وغيره كثير قاله الرجل ولكن هل تعلمون ما حدث للرجل الذي كاد الشمال بمؤازرة الرويبضة عرمان بأكثر مما كاد الشيطان الرجيم؟..
باقان اليوم يعيش في نيروبي وغيرها من العواصم ومحرّم عليه أن يعيش في دولته التي كان يكاد يجن من الفرح وهو يغادر إليها من (وسخ الخرطوم).. نعم، لقد هاجر باقان إلى نيروبي بعد أن أوشك أن يفقد حياته في جوبا التي أعتقل فيها وأُهين من قبل حكومته.. هاجر من دولة الجنوب خوفاً على حياته بينما كان ينعم هنا في الخرطوم (الوسخانة) بحرية الكيد لوطنه والتآمر عليه رغم أن حزبه (الحركة الشعبية لتحرير السودان) كان يشارك في الحكومة..
اللهم لا شماتة.. هل بربكم من يشك في أننا ارتحنا من باقان وارتحنا من الوحدة المجنونة مع جنوبه الذي لم يحتمل بنيه الذين قاتلوا وناضلوا من أجله والذي يأكل الآن لحم مواطنيه؟.
– نواصل –