تحقيقات وتقارير

قصة انقلاب مايو كما يرويها نميري


في صباح السبت الرابع والعشرين من مايو 1969م، توجه العقيد جعفر نميري إلى منزل أحد أقرباء بابكر عوض الله بحي المطار ويعمل أستاذاً جامعياً، حيث تم تسجيل بيان الانقلاب الأول، وفي الساعة الواحدة ظهراً التقى صدفة بالسيد محمد إبراهيم نقد وربما كان اللقاء مدبراً من جانب الشيوعيين، وأوضح نقد لنميري أن شخصاً يبحث عنه بشدة ولكنه لم يفصح عن سبب ذلك، ثم ركبا سوياً السيارة حيث توجها إلى سوق الخرطوم ودخلا منزلاً والتقيا فيه بالشخص المعني باللقاء، وكان الشفيع أحمد الشيخ القيادي العمالي بالحزب الشيوعي السوداني قد قال لنميري إنهم علموا في الحزب أنه يخطط لانقلاب، وأنهم منزعجون كثيراً لهذا الأمر، وقال له ان الوقت غير مناسب، وإنهم سيتعاونون معهم ولكن في مرحلة لاحقة، ولكن العقيد نميري سارع بالنفي بشدة، إلا أن الشفيع واجهه مرة أخرى، وقال له: لقد علمت إنك حضرت اجتماعات للتحضير للانقلاب، وهنا طلب نميري عنوان عبد الخالق محجوب بحجة انه يريد أن يطمئنه بعدم القيام بانقلاب، وهكذا بدأت العلاقة المتناقضة بين الحزب الشيوعي وحركة مايو، حيث بدأت بالحذر ثم بالترحيب التكتيكي والتأييد من جانب الشيوعيين، ثم انتقلت إلى خانة العداء ورائحة الدم والموت، ولكن ما هي قصة انقلاب مايو 1969م؟ وكيف تم التخطيط له، وكيف نفذ ثم ما هو دور الشيوعيين فيه وبعد تنفيذه ؟ الرئيس السابق نميري وقائد الحركة المايوية حكى هذه التجربة عبر كتاب «الرجل والتحدى» الذي قام بتأليفه السكرتير الصحفي محمد محجوب سليمان ونسبه للصحفي المصري عادل رضا، كما شارك في جمع مواده عدد من ضباط التوجيه المعنوي بالقيادة العامة آنذاك. وحرصنا ان نقدم شيئ من التعليق والاضاءة على بعض المواقف والاحداث.

كيف وقع الانقلاب؟ عاد العقيد جعفر نميري من جبيت بشرق السودان بحجة العلاج من وعكة طارئة، ثم توالت الاجتماعات التحضيرية للانقلاب، غير ان اجتماعات التحضير النهائي قصرت على خالد حسن عباس وأبو القاسم محمد إبراهيم وفاروق حمد الله وزين العابدين عبد القادر، وكانت تعقد في منزل أبو القاسم محمد إبراهيم وأحياناً في منزل أبو القاسم هاشم، وكانت القوى الرئيسة للقيام بالحركة تتكون من قوة المدرعات التي تم التخطيط أن تكون في مهمة تدريبية في معسكر خور عمر، وكانت القوة المساعدة لها هي قوة المظليين، وحدد لها التحرك إلى منطقة فتاشة بضواحي أم درمان على أن تغير مسارها إلى منطقة خور عمر، حيث تلتقي بقوة المدرعات المعسكرة هناك، وأوكلت مهمة تحريك القوات المدرعة إلى أبو القاسم محمد إبراهيم وزين العابدين محمد أحمد عبد القادر اللذين قاما بالسيطرة على سلاح المظلات، بينما أوكلت مهام أخرى إلى أبو القاسم هاشم ومأمون عوض أبو زيد في السيطرة على بعض المرافق العسكرية الأخرى.
وعند اقتراب ساعة الصفر توجه نميري إلى خور عمر ليلاً بسيارته وتوقف في منتصف المعسكر، وقدم خالد حسن عباس للجنود العقيد جعفر محمد نميري قائد الحركة، ثم أعلن نميري بأن التحرك سيتأخر ساعة عن موعده حتى لا يتزامن مع خروج المواطنين من ساحة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وقبيل الساعة الثالثة صباحاً تقريباً كانت القوات قد احتلت المرافق الإستراتيجية مثل الكباري والهاتف والإذاعة والتلفزيون، بينما أحتل نميري القيادة العامة، وسرعان ما بدأت تصل تقارير بقية القوات التي نجحت في أداء مهامها بسهولة عدا القوة التي قادها الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر التي لاقت مقاومة محدودة من أحد كبار الضباط عند اعتقاله، بينما لم يتمكن الرائد خالد حسن عباس من اعتقال اللواء حمد النيل ضيف الله رئيس الأركان الذي كان خارج المنزل، وتم الاتصال بالقوات المسحلة بالولايات التي أعلنت تأييدها، وفي السادسة صباحاً بدأت الموسيقى العسكرية تنطلق من راديو أم درمان، ثم بدأت البيانات تتوالى. هوية الانقلابيين والشيوعيين بعد إذاعة بيان التشكيل الوزاري لحركة مايو انطلقت العديد من الهمس والشائعات حول الهوية السياسية للانقلابيين الجدد ومعظم الهمس انصب حول تبيعتهم للحزب الشيوعي وعن دور قام به الحزب الشيوعي في الانقلاب، وهو أمر أغضب الرئيس نميري واستدعى بابكر عوض الله الذي نفى أي دور للشيوعيين فيه أو أي انتماء للوزراء للحزب الشيوعي، إلا أن هذه الشائعات وجدت أرضية قوية عندما شارك الشيوعيون بكثافة في موكب التأييد في الثاني من يونيو 1969م بشعاراتهم الحمراء التي لم يكفوا عن رفعها في العديد من الحشود واللقاءات الجماهيرية، وبالمقابل حاول نميري أن يظهر لوناً مختلفاً لحركته مغايراً للفكر الماركسي مثل شعار الوحدة الوطنية في مقابل وحدة القوى الثورية، كما حرص على أن يتحدث عما سماه الاشتراكية السودانية التي تستلهم مبادئ الإسلام في إشارة لرفضه الاشتراكية العلمية.

وإزاء إصرار الشيوعيين لإعلان احتواء النظام الجديد كان نميري يعتزم إعلان موقف الحركة الرافض للشيوعية والتعاون معهم، إلا أن أعضاء مجلس الثورة كما أورد مؤلف كتاب «الرجل والتحدي» كانوا يرون أن إعلان هذا الموقف هو مبادرة عداء لعناصر لم تشترط إعلان هويتها الفكرية والعقائدية في إطار مساندتها للثورة، غير أن الرئيس نميري كما يقول المؤلف لم يقتنع لأسباب عددها على النحو التالي: 1/ إنه بتجربته الشخصية في أكتوبر 1964م ثم مايو 1969م قد واجه التنكر الشيوعي لأية مبادرات لا يتولون قيادتها أو على الأقل لا يكون لهم دور رئيس فيها. 2/ إن التحرك الشيوعي رغم عدم إعلانه عن هويته بصورة سافرة، إلا انه يطرح شعارات ويخلق من شائعات يهدف إلى إيهام الجماهير بأنه المهيمن على الثورة أو على الأقل المحدد لإتجاهاتها .
3/ إنه يرى وعن اقتناع أن هدف الشيوعيين من التظاهر بتأييد الثورة، إما يتمثل في إتاحة الفرصة لهم لممارسة العمل العلني برضاء الثورة أو رغماً عنها كمرحلة سابقة للانقضاض عليها. 4/ إن النشاطات المكثفة للتنظيمات الخاضعة لسيطرة الشيوعيين الفكرية أو التنظيمية أو التي تقودها عناصر شيوعية ملتزمة إنما هي جزء من خطط لاحتواء الثورة أو الانحراف بها عن طريق تحقيق أهدافها المعلنة، وإنه سيقف أمام هذا المخطط بصلابة.
واستمر الرئيس نميري في إبراز خط متمايز عن الشيوعيين ولكن دون إلاشارة إليهم بصراحة، وإزاء ذلك يقول الرئيس نميري إن عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي طلب لقاءه أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يرفض بشدة، إلا ان عبد الخالق حاول تدبير لقاء دون ترتيب من نميري، وقد روى نميري ذلك حيث قال بحسب المصدر السابق: «المرة الأولى كانت مقدمتها فيما ظننت صدفة، فقد كنت في تلك الأيام المبكرة للثورة لا أكاد أن أغادر مكتبي بالقيادة العامة في الليل والنهار إلا للقاءات الجماهيرية داخل وخارج العاصمة، وفيما عدا ذلك فإن مقابلاتي كانت تتم في أحد أركانه «سرير حديد صغير»، وكانت ساعات النوم محدودة ما كانت تصل لأكثر من ثلاث ساعات، حيث كانت تتخللها مقابلات مفاجئة أو محادثات تليفونية مهمة. وفي صباح احد الأيام دخل إلى مكتبي العميد محمد عبد الحليم الذي كان يعمل مستشاراً قانونياً لمجلس الثورة ليقترح علي الانتقال إلى منزله لعدة ساعات باعتبار أن هذه هي الفرصة الوحيدة التي يمكنني فيها أن أواصل النوم لفترة معقولة دون احتمال لإزعاج، وأغراني الاقتراح وخاصة أنني كنت في حالة سهر متواصل ولمدة تزيد عن «48» ساعة قضيتها في مقابلات واجتماعات متواصلة.

وانتقلت إلى منزل محمد عبد الحليم القريب من مبنى القيادة العامة، وكان المنزل خالياً لأن المقيمين فيه فقد كانوا في إجازة خارج البلاد، وبمجرد أن غادر العميد محمد عبد الحليم الغرفة استغرقت على الفور في نوم عميق، وبعد عدد من الساعات استيقظت لأجد على مقعدين بجانب السرير العميد محمد عبد الحليم ثم عبد الخالق محجوب، كانت مفاجأة استوعبتها وأنا أرد التحية التي نطق بهما كلاهما في وقت واحد. في الفترة التي قضتيها في ارتداء ملابسي كان ذهني مشغولاً في موضوع واحد هل محمد عبد الحليم متواطئ مع عبد الخالق في تدبير هذا اللقاء أم أنه تم رغماً عنه؟ ولكن كيف ولا أحد يعرف مكاني سواه .. وبعد أن ارتديت ملابسي حاول عبد الخالق أن يبدأ حواراً، فقلت له أنت في زيارة صديق ثم أننا التقينا على غير موعد، إلا أنني رغم ذلك أقبل الحوار على ان يتم في إطار شخصي جعفر نميري وعبد الخالق، قال ولكن قضايا الساعة، قلت ناقشناها يوم 24 مايو هل تذكره. وما بعد هذا التاريخ هناك سلطة شرعية تتولاه وأنت مواطن لا أظن أنه من حقك أن تناقش معي، إلا إذا كانت هناك فرصة مماثلة متاحة لكل ملايين السودانيين لمناقشتها بنفس الصورة، ثم أنني أسأل وأتولى الإجابة..

أنت تريد حواراً فلماذا تريد أن تخرج من هنا وتقول قابلت جعفر نميري في غير مكتبه وبترتيب خاص وفي إطار من السرية، وأنت وأنا ناقشنا موضوعات مهمة لتعطي انطباعاً باننا ندور في فلك واحد، وأنت تعلم أن هذا غير صحيح وخرجت دون أن أتيح له فرصة الرد». ويقول نميري: «إن المرة الثانية كانت مخططة ببراعة وبدهاء كبير وبذكاء، واعترف بأنه استوعب الدرس المستفاد من المرة الأولى بنجاح كبير.. كانت المناسبة لقاءً جماهيرياً احتشدت له الآلاف في منطقة برى بضواحي الخرطوم، ووصلت في الموعد المحدد ومعي بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، أذكر منهم الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم، حيث تمكن بصعوبة من الوصول إلى هناك وسط الحشود، وكان الحفل مذاعاً على الهواء، وكالعادة بدأ بالقرآن الكريم، ثم توالى المتحدثون، وفي النهاية جاء دوري وألقيت خطابي، ثم تركت المنصة متأهباً للانصراف، إلا ان مذيع الحفل أعلن عن متحدث جديد، وكانت المفاجأة مزدوجة، والتقليد السائد في السودان وفي غير السودان هو أن يكون الرئيس آخر المتحدثين، وكان حديثاً بعد حديثي مفاجأة.. إلا أن المفاجأة الأخطر كانت في شخص المتحدث الذي أعلن عنه المذيع وهو عبد الخالق». محجوب. صحيح أنه لم يقدمه بصفته الحزبية ولا موقعه في الحزب كسكرتير له، ولكن الصحيح أن مجرد وجوده وفي إطار لقاء جماهيري مع رئيس وأعضاء مجلس قيادة الثورة هو إيحاء بأن هناك علاقة وثيقة تربطهم به، وهي علاقة غير شخصية بطبيعة الحال، ثم يمضي نميري قائلاً: «فكرت في عدة خطوات، الأولى أن اتوجه حيث يقف متحدثاً لأنزعه من مكانه، إلا أن ذلك كان يعني بأنني أضع موقعي في تكافؤ مع موقعه بغض النظر عن شخصي وشخصه. الثانية أن انسحب من الحفل، إلا ان ذلك كان يعني انني أخلي الساحة له وهو دخيل عليها.

الثالثة أن اتجاوز الموقف بأكمله مستفيداً من الدرس، وفي أول اجتماع لمجلس قيادة الثورة ناقشت ما حدث، موضحاً أبعاده، مركزاً على أن يكون رئيس مجلس قيادة الثورة ومن ينوب عنه آخر المتحدثين في مثل هذه اللقاءات، وقد وافق أعضاء قيادة مجلس الثورة ماعدا اثنين هما بابكر النور وهاشم العطا، بحجة أن ذلك قيد على الحركة الجماهيرية التلقائية والعفوية في مساندة الثورة، كما أن ما حدث يعكس التفاف مختلف الاتجاهات والأفكار والتيارات السياسية حول الثورة». الفراق مع الشيوعية ويحكي نميري عن أن اجتماعات مجلس الثورة بدأت تتسرب، وقد لاحظ أن هاشم العطا كان يدون مدولات الاجتماع، وعندما سأله عن السبب قال له انها عادة قديمة، ثم لم تمض فترة عندما أطاح المجلس بقيادة نميري هاشم العطا وبابكر النور وكلاهما أعضاء ملتزمون في الحزب الشيوعي، ولم تمض فترة طويلة حيث قام هاشم العطا وبعض القيادات الشيوعية في القوات المسلحة والسياسية بعمل انقلاب في عام 1971م، حيث شهد مجزرة بيت الضيافة التي كان قتلاها ضباط موالين لمايو، ثم نجح النظام وموالوه من القوات المسلحة في استعادة الحكم بعد ثلاثة أيام، وصادق نميري على حكم الإعدام بحق هاشم العطا وبابكر النور من الأعضاء السابقين لمجلس الثورة، بالإضافة إلى سكرتير الحزب الشيوعي البارز عبد الخالق محجوب، والزعيم الشيوعي العمالي الشفيع أحمد الشيخ وآخرين، والذي أصدرته محكمة ميدانية بالمدرعات بالشجرة عقب فشل الانقلاب، وقد لاقى دحر الانقلاب الشيوعي قبولاً كبيراً من الشارع السوداني لأسباب عقدية ولأسباب تتعلق بقناعاته بالنظام المايوي الجديد كنظام وطني يسعى للإصلاح والتنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة أن مايو لم تكن تبرز بعد أبرز مساوئها إذ لم يمض عامان على تفجيرها. وعقب دحر الانقلاب بعد فترة قصيرة سارعت الولايات المتحدة إلى سد المساحة التي تركها الاتحاد السوفيتي الذي تعاون مع النظام في بدايته وقبل حدوث الانقلاب الشيوعي الفاشل، حيث مد القوات المسلحة بأسلحة شملت مدرعات وطائرات وأسلحة خفيفة، وأعلن نميري في لقاء جماهيري أن الولايات المتحدة قدمت دعماً كبيراً للسودان بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا مع متمردي جنوب السودان آنذاك، وأنه يفكر في إعادة العلاقات الدبلوماسية معها، وهو ما فعله بعد فترة قصيرة، وتطورت هذه العلاقة مع نظام مايو حتى أن نميري ذهب للعلاج في الولايات المتحدة في رحلته الأخيرة، حيث أطاحته الانتفاضة الشعبية في أبريل 1985م، لكن الولايات المتحدة اكتفت بمراقبة الانتفاضة ولم تمد يد العون لصديقها الوفي نميري حتى غرق نظامه وأفل وأصبح تاريخاً يروى.

أحمد طه صديق
صحيفة الإنتباهة