احلام مستغانمي

جئت أخبرك أنّني راحل !


بدأت صباحها بملعقة عسل دافئ. يجب ألّا يكون لها من شاغل إلّا صوتها. لسنوات كان هذا هاجس والدها الذي صان صوته، بقدر ما حرس صمتها. لذا أراد لها مهنة لا يُسمع لها فيها صوت، إلّا بين جدران الصفّ الأربعة.
أبهذا الصوت نفسه كانت تشرح لساعات قواعد النحو واللغة، وتلقّن التلاميذ المحفوظات، وتعيد وتكرّر لكلّ تلميذ على حدة ما لم يفهم؟ صوتٌ كان يقول كلمات من طباشير، تمحوها عن اللوح في آخر الدرس. اليوم كلّ نفسٍ في صوتها يوثّق ويُحفَظ إلى الأبد على شريط مضغوط.
أوّل ما لقّنوها حماية صوتها من نزلات البرد، ومن التلوّث ومن دخان السجائر. وماذا عن الألم ووعكات القلب حين تغصّ بها الحنجرة، فيختنق صوتك رافضًا النطق؟
يوم تسجيل ألبومها، اعتذرت لمهندس الصوت، مطالبة بإعادة تسجيل تلك الأغنية مجدّدًا. بعد المحاولة الثانية، نصحها أن تستسلم لأحاسيسها كما لو كانت تغنّي لنفسها، وألّا تقمع أيّ مشاعر حتّى لو كانت الرغبة في البكاء، مستشهدًا بقصّة سيرج غانسبور»في الثمانينيّات حين قال لزوجته النجمة جين بيركين: «Je suis venu te dire que je m’en vais» فأجهشت جين بالبكاء. وما كانت تدري وهي تنتحب أنّه كان يسجّل بكاءها، كي يرفقه بالأغنية التي ستحمل عنوان ما قاله لها «جئت أخبرك أنّني راحل». كان في الواقع إعلانًا حقيقيًّا لهجرانها!
أمِنَ النبل أن نوثّق دموع الآخرين في أغنية نتخلّى فيها عنهم؟
” الأسود يليق بك ”