داليا الياس

احترس.. أمامك إشارة


لم يعد مجرد تلك الإشارات الضوئية التي تعمل على توجيهك وتنظيم حركة السير في طريق الأسفلت العام.. وبقدر ما تزايد عددها واجتهد رجال المرور في توفيرها على مفارق الطرقات لتعينهم على مهامهم النبيلة في ضبط الشارع وتحقيق سلامة المارة والسائقين بقدر ما تذايدت الأبعاد المدهشة المترتبة عليها. فحالما توقفت عند إشارة المرور عليك أن تهيئ نفسك لكل الاحتمالات.. إمكانية التسوق.. حصار المتسولين.. تعرضك للسرقة والاحتيال.. والغواية!! فسرعان ما يركض الباعة الجائلون باتجاهك عارضين بضاعتهم عليك بمختلف أنواعها ما بين أجهزة كهربائية ومفارش ولعب أطفال وملابس وسجاد وجداريات وصحف وحتى الفاكهة!! وبذات الإلحاح يمعن المتسولون بسحناتهم الغريبة في الإلحاح بالطرق المتواصل على زجاجك والهمهمة بكلمات غير مفهومة تبدو في ظاهرها دعوات وهم يرمقونك بنظرات وقحة تتوعدك بالويل والثبور إن أنت لم تهرع لمد يدك إلى جيبك ومنحهم ما يريدون، علماً بأن أحدهم قد ألقى في وجهي عملةً حديدية من ذوات الخمسين قرشاً بكل بجاحة على اعتبار كونها أقل من تسعيرة التسول!! وما نلاحظه جميعاً أن غالبية متسولي الإشارات من الأطفال من الجنسين.. يبرعون في الإلحاح.. وبعضهم يمارس التسول المقنع بمسح الزجاج!! ولم يعد خيار التصدق والإعانة متروكاً لإمكانياتك ووازعك الديني.. فأحياناً تمد لهم يد العون لتهرب من إلحاحهم أو خوفاً منهم.. ولشد ما تدهشني المتسولة التي تكون في كامل زينتها.. مخضبة البنان بالحناء وتبدو آثار استعمال (الكريمات) باديةً على وجهها.. ثم تدعي العوز والمسكنة.. وهي (تلفح) رضيعاً على كتفها كواحدة من أدوات المهنة.. فبربك من أين أتيتي بالوقت والاستعداد النفسي لهذه الحناء وعنائها؟ وكيف يطاوعك قلبك على استخدام رضيعك كمؤثر طبيعي على قلوبنا المرهفة يحقق مراميك التسولية؟ ويقال إنه قد لا يكون ابن بطنها.. ولكنها تستأجره وتعيده آخر النهار إلى ذويه ومعه (توريدة) متفق عليها!! ويقال إن تنظيماً قوياً يقف وراء شبكة المتسولين هؤلاء!! ويقال إن غالبيتهم من جنسيات غير سودانية!! فهل بلغت أذن الحكومة تلك (القوالات)؟ ثم ماذا عن سرقات الاستوبات تلك؟ فحالما وقفت لهذه الثوان المعدودة هرع أحدهم لإلهائك عن يسارك.. بينما سارع الآخر لفتح الباب المجاور أو الخلفي ليفر بجوالك أو حقيبتك أو ما تصله يده من غنائم ولا يعنيه إن كانت أوراقاً مهمة أو حاسب آلي يحتوي ثمار جهدك وعملك.. ثم يذوبان على عجل قبل أن تنتبه من ذهولك على أصوات أبواق السيارات من خلفك ﻷن الإشارة قد تحولت للون الأخضر دون أن يعي أحد ما حدث معك، فالمروءة في بلدي ماضية نحو الانقراض شأنها شأن كل الأخلاق الحميدة!! ولن يجديك حينها الركض أو التبليغ.. وستجد نفسك مرغماً على الرضا والاحتساب (والله يعوضك)! أما الحديث عن الغواية.. والمعاكسات.. والبنات والأولاد الذين يعرضون أجسادهم على الطريق العام وعند التقاطعات فلن أخوض فيه كثيراً ﻷن أدعياء الشرف ممن يهاجمون أقلامنا متهمين إياها بالمبالغة وتشويه صورة المجتمع السوداني الجميلة سيخرجون علي بدعواهم.. والشاهد أن العين لا يمكنها أن تنكر التردي الأخلاقي والانحراف والابتذال في الشارع العام إلا من عمى.. ولا يمكننا أن نظل على دفن رؤوسنا في الرمال طويلاً، وما طال المجتمع الآن من تغييرات سالبة يشيب لها الولدان وتثير الرعب في الأبدان، وتصدم العقول بالوقائع والإحصاءات وشكل الممارسات ونوع الممارسين!! إن الإشارة الآن حمراء.. ولا يمكننا أن نمضي قدماً دون أن نتوقف عندها.. ولا سيما أن كل أحاديثنا بهذا الصدد قد ذهبت أدراج الرياح، فلا حكومة تحرك ساكناً للحد من هذه الظواهر.. ولا المجتمع يسعى لمحاربتها. ونحن لا نملك سوى هذا القلم الباهت.. الذي كثيراً ما يكسره الرقيب.. ويظل في كل الأحوال أضعف الإيمان.. و(قف). *تلويح: أحياناً لا يعني الضوء الأخضر إمكانية العبور.. فسلطة رجل المرور تلغي فاعلية الإشارة!


تعليق واحد

  1. مسألت التسول المقنع موجودة حتى فى ايطاليا مسح زجاج السيارة ثم التسول لقد بدأت منذ عام ١٩٨٥ فى روما عاصمة ايطاليا.