تحقيقات وتقارير

درجة الغليان.. ارتفاع الحرارة في الخرطوم لا يمكن فصله عن ثيرموميتر الحراك السياسي


” شمسك شرقت أشرق نورها بقت شمسين”.. درجة الحرارة في الخرطوم تكاد تلامس الخمسين وعلى بعد خطوة من الغليان.. الحالة المزاجية في قمة (عكورتها)، يقول أحد الأشقاء الأريتريين وهو يشارك السودانيين مشقة الوصول إلى قلب الخرطوم في بص هو مشقة أخرى أطلق عليه الشعب اسم (بص الوالي).. يردد المغترب في أرض الشمس الحارقة: “ياخ هنا الشمس جمب راسك”. الذاهبون إلى حال سبيل (مساككة لقمة العيش) لم يجدوا حتى مساحة لمشاركة الغريب ابتسامته، ومضوا لحال سبيل تكشيرتهم وتفكيرهم في خصوصية مشهد احتياجاتهم ونيرانهم الخاصة.

يجادل شاب يجلس في المقعد الأخير في البص جاره في ذات المقعد قائلا: ارتفاع درجة الحرارة موجة عامة في المنطقة وليس في السودان وحده.. مستعيناً بهاتفه الذكي وهو يؤشر لدرجات الحرارة في الدول المحيطة وهي تكاد تقارب الرقم الخرطومي مع بعض الاختلافات. يأتي الشاب الآخر بما يسميه (الزيت) وفقاً للمحمول اللغوي للجيل الجديد ويؤكد أن السخانة السودانية تتميز بأنها سخانة ثنائية الطابع؛ داخلية وخارجية.

يتجاوز الشيخ الستيني كل الجدل الدائر في البص محاولاً اتقاء حرارة الشمس بالصحيفة التي يغلق بها النافذة ليقرأ في خطها البارز وعداً حكومياً على لسان مسؤول: (الحكومة القادمة ستأتي من أجل رفع المعاناة عن كاهل المواطنين)، يضيف عليها عبارة من عنده: (والمساكين أيضاً).. يهبط إلى الأرض لتحرقه نيران أخرى، بالطبع تأتي على رأسها نيران الأسعار واقتراب شهر رمضان ومتطلباته التي لا تنتهي.. يضحك وهو يقول: “يبدو أننا في هذا العام سنصوم نهاراً وليلاً” في ظل حالة الارتفاع الجنوني لأسعار كل السلع الرئيسة. لكن الرجل مثل أقرانه الصابرين في البلاد يذهبون إلى بداية الشهر محملين بالعبارة الأشهر (الله كريم).

في مجمع عيادات شهير يلوك المرضى شمس انتظارهم لاختصاصي الباطنية الذي يكتفي بالغياب رغم أن الحضور يأتون وهم في حالة صيام، احتجاجهم على ارتفاع درجات الحرارة وعلى غياب الطبيب لم تبرد نيرانه وصية أحد العاملين في المجمع: “عليكم مقابلته في عيادته الخاصة”.. لم يبق أمام من تلهبهم حرارة الشمس غير الاستعداد للهيب حرارة الفاتورة، وإلى ذلك الحين فهم يفعلون ما يفعله العاجزون، يضعون شكواهم في صندوق (اليوم التالي) علها تصل أسماع وزير الصحة في الولاية أو تحرك ساكن وزير الصحة الاتحادي قبل حلول طقس التعديل الوزاري.

يتوقف البص في التقاطع الموازي لمستشفى الخرطوم، الزحمة على أشدها وإشارات المرور معطلة، وحده الرجل بلباسه الأبيض الغارق في العرق يفعل ما يمليه عليه الواجب والضمير. شرطي المرور مضطراً يشتغل بدل الإشارة وبدل الشارع وبدل كله، “واقف في نار الله الموقدة دي لمن تغيب.. لو مسكو سحائي حق العلاج ما عندو.. لو جاتو ضربة شمس يجي يمسك بدلو زميله بمرتب رمزي وشغلانية شبه التطوع”.. يمد يديه لسيدة مسنة يساعدها في العبور إلى الضفة الأخرى من الشارع تضع دعاءها في جيبه الأيسر قريباً من القلب ويضع هو ابتسامته التي تقطعها أصوات أبواق السيارات وترتفع يده مرة أخرى لتعديل الميل في الطريق.

(الكتمة) ليست في الجو وحده، وارتفاع درجات الحرارة في الخرطوم لا يمكن فصله عن ثيرموميتر الحراك السياسي في بلاد ينتظر شعبها تشكيلة وزارية جديدة وينتظر أن تأتيه حكومة تسعى لتحقيق تطلعاته في حياة كريمة وتضربه نسائم الصحة وتتوفر في مشافيه الأدوية المنقذة للحياة ويجد صغاره التعليم الذي يليق بصناعة وطن للمستقبل، ويستمر سريان التيار الكهربائي في البيوت وألا يرتبط هذا الأمر برمضان بحسب تأكيدات الوزير المختص.. إن توفر له ذلك فإن مقاومة الشمس تصبح من السهولة بمكان ويمكن للعابرين في شوارع الخرطوم احتمال سخونة الطقس في حال برد طقس المواجهة السياسية بين فرقاء العملية السياسية وانخرطوا في إنجاز وفاق وطني يدشن حالة قبول الآخر.

لكن الولاية تقول إن (السخانة) التي يعاني منها المواطنون حين ركوبهم البصات العامة ستنتهي بحلول الأسبوع القادم، ففي اجتماع مجلس الوزراء يبشر الوالي عبد الرحمن الخضر مواطني ولايته بأن حرارة الطقس يمكن تجاوزها ببرودة مياه النيل حين يعلن عن اكتمال الاستعدادات في مواعين النقل النهري بنسبة 90% وأنهم أخيراً سيرسون على بر بعيد عن سخانة وسط الخرطوم وازدحامها دون أن يتجاوزوا حق التساؤل حول درجة حرارة النهر.

الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي


تعليق واحد