جعفر عباس

وهم العصر الذهبي


كتبت مراراً عن ضيقي من العواجيز الذين تصبح جلساتهم مسابقات حول «من أكثرنا مرضاً» فإذا قال أحدهم انه يعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري قاطعه آخر: أنا بدون فخر عندي انسداد في ثلاثة صمامات وتضخم في عضلات القلب وشقوق في أربع فقرات في الظهر، فينبري ثالث: أنا في سنة واحدة شلت المرارة والزائدة واللوزتين والطحال، وإن شاء الله في الصيف راح يشيلون جزءا من المصران الغليظ!
وإذا لم يشغل العواجيز أنفسهم بالتباهي بما عندهم من أمراض، فإنهم يتباكون على أيام زمان «والحياة التي كانت حلوة»! وأفرك فروة رأسي: ما الذي كان جميلا قبل أربعين أو ستين سنة ليتباكى عليه الجماعة؟ ما هي الذكريات الحلوة عن فترة الطفولة التي يتحدث عنها بعض أبناء جيلي؟ لا أذكر انه مر علينا أسبوع واحد ونحن نلعب – كأطفال – من دون ان يتعرض أحدنا للدغة عقرب أو ثعبان أو رفسة حمار.
أصبت ذات مرة بضيق في التنفس فذهب بي والدي إلى رجل حبشي وكان تشخيص حالتي كما يلي: هناك شحم متراكم في الصدر والبطن ولابد من إذابته بالكي بالنار، وهكذا وضع مسمارا طويلا على جمر متقد، ثم كوى جسمي به في نحو عشرة مواضع، وكان الشيء الإيجابي الوحيد من تلك التجربة العلاجية هو أنني صرت «محتشماً» ولا أمارس السباحة في حضور الآخرين، إلا بنصف ملابسي، حتى لا يروا الخطوط العجيبة التي خلفها الكي في بطني ويحسبوا أنني حمار وحشي مستنسخ.
ويا سلام على الطعام أيام زمان. العائلات الارستقراطية كانت تأكل وجبتين في اليوم، وتذوق اللحم مرتين في الأسبوع ولعل كثيرين لا يعرفون لماذا تتعرض الدول العربية لغزو الجراد خلال العشرين سنة الأخيرة، السر في ذلك هو أن الجراد تعلم الدرس، فهو يغزو البلاد ليأكل من محاصيلها الزراعية، ولكنه غزا الدول العربية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين فوجد نفسه مأكولا، فقد كان الناس يرحبون بقدومه ويصطادونه بعشرات ومئات الآلاف ويأكلونه مشويا ومحمرا، وبعد ذلك قررت القيادة القومية لحركة الجراد الأحرار عدم التحليق في الأجواء العربية.
ويقال إنه خلال هجرة الجراد من الغرب إلى الشرق خلال عام 2004 حيث تعرضت المحاصيل في غرب إفريقيا للدمار الشامل، حلقت مئات الملايين منها في الأجواء العربية، وكلما رأت خضرة تهاوت نحوها، ولكن في كل مرة كان قائد السرب يقول لهم: فوق، فوق.. أي واصلوا التحليق إلى أعلى.. فحدثت حركة احتجاجات وتمرد وقال بعضهم إن قائد السرب هذا لا يفهم جغرافية العالم، وإنه حرمهم من النزول في أماكن خصبة في العالم العربي وقرروا عقد اجتماع لاستبداله، وعندما سمع القائد بذلك جمعهم وألقى فيهم خطبة قصيرة: لقد أوصانا أجدادنا بتفادي العالم العربي، ويا أولاد الكلب لو نزلتم في هذه المنطقة سيأكلونكم عن بكرة أبيكم!
كيف تكون الحياة حلوة من دون ثلاجة؟ حتى بعد أن انتقلنا إلى المدينة كان أبي يرسلني في قائظة النهار إلى محل لبيع الثلج لأشتري «رُبع لوح»، وكان ذلك دليلا على ان عائلتنا صارت برجوازية، وحتى بعد دخولي الحياة العملية كنت أبقى في رمضان في المكتب حتى قبل المغيب بدقائق! لماذا؟ لأن المكتب به مروحة. ثم جاءت مكيفات الهواء، ثم حلت السيارات محل الحمير، ولعلمكم ركوب الحمير يسبب البواسير، وأنا أتكلم عن تجربة، فزملائي في المرحلة الابتدائية مازالوا يذكرون كيف كانوا يحسدونني لأنني أملك حمارا أروح وأجي به.. ودفعت ثمن ذلك لاحقاً!!
واليوم تكون في بلد أجنبي وبعد سويعات تجد نفسك في أحضان أهلك.. حتى لو بقيت بعيدا عن أهلك انتهى عصر القلق عندما كانت الرسالة البريدية تسير 15 يوماً لقطع البحر الأحمر ما بين السودان والسعودية (مثلا) والآن استطيع ان أتواصل مع أهلي عدة مرات يومياً، ولن أنسى كيف قاومت أمي تزويد بيتها بالتليفون، وكيف كانت كلما كلمتها قليلا ثم طلبت أن أحدث إحدى أخواتي تصيح بصوت عال: يا بنت تعالي كلمي أخوكي، ثم «تقفل الخط».
رجاء لا تحدثوني عن عصر ذهبي وهمي.

jafabbas19@gmail.com


تعليق واحد

  1. ياخال اليس من واجب العباد حمد الله علي النعم الم تسكن داخليات البركس وانت تتمتع بسكن فندقي اطعام مختار بعناية الم تدرس بواسطة افضل اساتذة الجامعات اليشار اليهم بالبنان الم تجد وظيفة حكومية ومنها جهاز التلفزيون الم تكونون تصولون وتجولون تارة مع النميري وتارة ضد النميري الا يستاهل كل ذلك الحمد والمنه منك ليل نهار وقليل من عبادي شكور