منى سلمان

السلام عقب الكتف !


قد تضطر مجبرا لا بطل لمصافحة الهواء بشدة، عندما يدفعك عدم الانتباه والتركيز لان تبادر لبسط يدك مسلّما، على من يلتزم بـ (نهج الامتناع عن المصافحة) .. دفعني مشهد حرجة كاربة تعرضت لها صديقة قدام عيوني، لمحاولة سبر غور منطقة (السلام العقب الكتف)، من منظور التواصل عند أهلنا الطيبين الذين يعتبرون أن السلام محنة، ويفضلون دفء الملاقاة على اطعام البطون فيقولوا في ذلك (لاقيني ولا تغديني).
للحبوبات – زمان – طريقة مميزة في السلام على الاطفال، فقد كانت الواحدة منهن تقبض على الصغير وترفعه إلى صدرها – قد تكتفي بالانحناء عليه إذا ما طالت سكاكاته وعاقتها من حمله – عند حضورها للزيارة، ثم تضمه إليها في محنة آثره، ضمة شديدة تكاد تكتم بها انفاسه .. تتشممه بعدها شمة عميقه وتطبع قبلة ذات طرقعة عالية يشترك في طبعها الفم والانف معا على خده، قبل أن تعيده إلى الارض مترنحا وسعيد.
رغم أن العيال – عبر الاجيال – كثيرا ما يعانون من تجاهل الكبار لهم في السلام، وتجاوزهم في المطايبة وتجاهل ايديهم الصغيرة الممدودة بإلحاح للسلام .. إلا أن الحبوبات كانن دوما مستثنات من ذلك التعميم، فالحبوبة تحرص على مسالمة الصغار واحدا .. واحدا، وتخص كل منهم بمناتداته بما يحب من اسماء التدليل، ووتتفقد غائبهم وتطلب مناداته للسلام قائلة:
نادوا لي فلان الـ (نشمّو) .. قولو ليهو يجي يسلم علي حبوبتو.
فـ (الشمّة) و(الضمّة) من أميز سمات سلام الحبوبات.
كانت طريقتنا في السلام على بعضنا بـ (القلدة وملاقاة الكتوف)، قبل سيادة موضة التقبيل النقري ( من نقر الغراب) السريع على الخدود، تلفت انظار صديقاتنا المصريات أيام الجامعة في مدينة اسكندرية، فيثنون على حميمية العلاقة التي تربط بيننا نحن الطالبات السودانيات، وتميزنا عن باقي الطالبات من الجنسيات الاخرى .. أما السلام على زملائنا الشباب فلم يكن يتجاوز المصافحة المعهودة مع التحفظ والحذر من مد اليد للملتحين عموما، يقابلها خوف مشوب بالحذر من مسالمة المحجبات من جانبهم، إلى أن عنّ لإحدى صديقاتنا الملتزمات أن تمتنع عن مصافحة الشباب دون سابق إنزار، فما أن وصلنا يومها إلى الكلية حتى قابلتنا مظاهرات المحروجين، الذين لم يجدوا بدا من مصافحة الهواء بأياديهم المشرعة إليها للسلام، فقد كانت تقبض يدها إلى صدرها كلما تقدم نحوها أحد الزملاء للسلام وتعتذر قائلة:
معليش يعني .. أنا تاني ما حا أصافح إن شاء الله.
احتجوا إلينا مشتكين من أنها لم تعلن عن نيتها الشروع في عدم المصافحة قبل ثمانية واربعين ساعة من دخولها في الاضراب عن السلام كما يقتضي حق الزمالة من عدم الاحراج .. بينما تهور البعض بالاعلان عن مافي الدواخل بـ (هو الداير سلاما ذاتو منو؟؟)
وعندما راجعناها في الاحراج الـ بالجملة الذي تسببت فيه دون سابق إنزار تحججت بأن:
أعلن كيف؟ يعني عايزيني ادقها ليهم في البورد عشان يعرفوني ما بصافح؟!!
ومن يومها نحمد لزميلتنا تلك تأسيسها لنهج الامتناع عن المصافحة بيننا وبين الشباب من زملائنا إلا للضرورة من وداع أو عودة من السفر .. وللحقيقة فإن هناك بعض المؤشرات التي تدل على نهج المسلّم عليه ورأيه في المصافحة .. مثلا لباس العباية مع القفازات هي دليل واشارة على إلتزام المرأة بعدم المصافحة، كما أن السلام من بعيد مع وضع اليد على الصدر بالاضافة إلى اللحية من أهم صفات الممتنعين من الرجال.
ما زلت أذكر الموقف الطريف الذي عشته – زي ما يكون حصل أمبارح – بسبب احراج مشابه ، ففي ذات يوم عندما كنت أطرق ابواب الصبينة على استحياء، وقبل أن أكمل دراستي الابتدائية، ذهبت مع شقيقتي في مرسال لبعض معارف أمي في حي مجاور، دخلنا بعد أن طرقنا على الباب وفتحته لنا ربة المنزل .. لنجد شابا كث اللحية يضجع على ظهره على سرير في الحوش .. مرت شقيقتي من جواره إلى الداخل دون أن تهتم بالسلام، إلا اني بـ (جوجوتي وعدم تركيزي) المعهود، وربما لمحنّتي الزايدة عن اللزوم، توقفت أمام الشاب ومددت إليه يدي بالسلام أن: (إزيك؟)، إلا أنه اسرع بضم يده إلى صدره وأجابني:
وعليكم السلام والرحمة.
لم أفهم حينها المغذى من ضم يده إلى صدره ووقفت مصلوبة أمامه بيدي الممدودة .. بل كدت أن ادفعها إلى بطنه لـ (الكزو) منبهة فقد حسبت انه ربما كان كفيفا لا يرى، إلى أن اسرعت أمه لنجدتي من دقة الموقف .. سحبتني من يدي الممدودة ودفعتني للداخل وهي تقول: معليش ولدي ده ما بصافح النسوان !!
لم أفهم معنى كلامها لكني طاوعتها وسرت معها إلى الداخل وقد غلبني التأثر على حالته: مسكين .. ياربي يكون مالو؟؟
وبعد أن كبرت وعقلت معنى الموقف، أصابني عليه الحنق المتأخر:
هن ذاتن وينن النسوان الما بصافحوهن؟!! فقد كنت حينها مجرد شافعة بـ سكاكات طوال ساكت، بالإضافة لمعاناتي من مكاواة أخواتي بعد علمهن بالحادثة فقد جادن علي بلقب (محروجكم وجاكم).
تختلف أراء العلماء في المصافحة بين من يرفضها رفضا قاطعا استنادا إلى مقولة المصطفى (ص) (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير لكم من أن يمس امرأة لا تحل له). وعلى أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقم بمصافحة النساء عندما جاءن لمبايعته واعتذر بالقول(إنني لا اصافح النساء).
بالمقابل نجد أن علماء كـ (الشيخ يوسف القرضاوي) يبيح المصافحة على اضيق نطاق وللضرورة وفقط بين الاهل وذوي القربى.
أما في البرتوكول وعلم الاتيكيت فان هناك أصول واداب للمصافحة كأن يبادر رب البيت بالسلام على الضيف، وأن لا يبادر الرجل السلام على المرأة حتى تبدي استعدادا له بأن تهيء يدها للمصافحة .. كما يشترط عند السلام أن تكون اليد جافة، وخالية لاتحمل منديلا أو نحوه، ويكون السلام بكامل الكف وفي قوة وسرعة، دون ابطاء أو ترك اليد على اليد لاطول مما يقتضيه السلام.
ونظل نحن السودانيين، في أمر السلام محكومين بحكمة أهلنا الكبار (النية زاملة سيدا).

(أرشيف الكاتبة)


‫2 تعليقات

  1. كاتبه وقاصة محترفه . تهانبنا على هذا الابداع . مع قراءة اول كلمه بالمقال تجبرينا على التكمله .فلك الشكر

  2. الرائعه مني سليمان

    تحيه نديه

    والسلام عليكم ورحمة الله ( بدون مصافحة طبعاً) ومن بعيد لبعيد

    وكذلك ( تمد الايد ونتسالم كأنك ما النسيت من زمااان ولا الزول القبيل خاصم)

    اكيييد لحميمية اهلنا السودانيين وخصوصيتهم في السلام ( والمقالده ) و ( النقه) وضعيه خاصه جداً تثير الدهشه عند غير

    السودانيين وكذلك فضولهم

    ويبقي اتباع السنة واجب مقدس ومقدر وعند معرفة ذلك اعتقد انه ينتفي الحرج

    دمت بخير

    والسلام ختام