د. ياسر محجوب الحسين

تنصيبٌ البشير


ليس لدي رقم محدد عن تكاليف تنصيب الرئيس السوداني عمر البشير الثلاثاء القادم، الثاني من يونيو، لولاية رئاسية جديدة، لتضاف (5) سنوات جديدة للسنوات الـ(26) التي حكم خلالها البلاد.. لكن إعلان اللجنة العليا لاحتفال التنصيب عن مشاركة (15) رئيس دولة، فضلا عن مشاركة (10) رؤساء برلمانات عربية وإفريقية، بجانب مشاركة الأمين العام للجامعة العربية، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، وأمين عام منظمة “الإيقاد”، ومنظمة الساحل والصحراء، كل ذلك يمكن أن يجعلنا تخيل حجم الصرف الضخم في بلد يكابد فقرا مدقعا وأوضاعا إنسانية مأساوية..
يقول ممثل اليونيسف في السودان في آخر تصريحاته إن “السودان في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية لمكافحة حالات الطوارئ المتعددة”.
ومضى يقول: “إن هناك أوضاعا مأساوية ناجمة عن وجود الآلاف من النازحين، ونحو مليونين من الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من سوء التغذية الحاد، ومنهم نحو (550) ألفا مصابون بسوء التغذية شديد الحدة وأصبحوا معرضين لخطر الموت، إلى جانب تفشي أمراض متعددة في أجزاء مختلفة من البلاد، بما في ذلك الإسهال المائي الحاد والحصبة التي تهدد حياة مئات الآلاف من الأطفال”.
وفاز مرشح البشير بنسبة 94.05% في الانتخابات التي أجريت في أبريل الماضي وشهدت مقاطعة شعبية غير مسبوقة ومع ذلك أعلن رسميا عن مشاركة أكثر من (5) ملايين مواطن.. الحادبون تمنوا لو أن البشير استمر رئيسا دون قيام انتخابات نتيجتها معروفة مسبقا، لتوفير الأموال الضخمة التي صرفت في انتخابات مهمتها ليست أكثر من ذر الرماد على العيون.
لقد بقي البشير أطول فترة يمكثها رئيس في الحكم في السودان، وقد تجاوز الرجل اليوم سبعين عاماً، وطبيعة الأشياء وقوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء وحدها تؤكد عدم تمكنه من تقديم حلول لأزمة وطنية بالغة التعقيد.
لقد مضى البشير ومن يستفيدون من بقائه في السلطة قدماً في تحدي دعاة التغيير داخل الحزب الحاكم وخارجه بإقدامه على الترشح مرة أخرى، باعتبار أن التغيير محور مهم في خطط مواجهة أزمات البلاد، كما يمثل فرصة مواتية أمام تعاطي المجتمع الدولي مع الحكومة.
يقول أحد قياديي ومفكري الحزب منتقدا خطوة إعادة انتخاب البشير: “إن التغيير الشامل لن يحدث ﺇﻻ ﺇﺫﺍ ﺷﻤﻞ ﺍﻟﺮﺋﺎﺳﺔ، وفي رأيه وهو الرجل القريب من قيادة الدولة، أن البشير تؤثر عليه مجموعات معينة وأﻥ ﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺤﺰﺏ الحاكم ﻫﻲ ﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﻭﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﺷﺨﺼﺎ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺑﻨﻴﺔ ﻭﻫﻴﻜﻞ، وﻫﻨﺎﻙ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻏﻴﺮ ﺭﺳﻤﻴﺔ ﻣﺨﻔﻴﺔ ﻟﻬﺎ ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ، وخلص إلى أن ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﻳﺔ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﻜﻴﻜﻬﺎ ﺇﻻ ﺑﺘﻐﻴﻴﺮ ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﺓ”.
وحين صعد البشير إلى سدة الحكم في يونيو 1989، كان أضعف حلقات القرار حين كانت السلطة في يد الحركة الإسلامية بزعامة حسن الترابي، فالعميد – حينها – عمر البشير كُلف بالقيام بدور محدد، نطاقا وزمنا، لكنه مكث أكثر من (25) عاما، بل أصبح مركز القرار الوحيد.. وكرسّت التعديلات الدستورية الأخيرة التي أمر بها، كل السلطات في يده بصورة مطلقة ولم يعد يكترث لأي سقف مرجعي، سواء كان ذلك مرجعا سياسيا متمثلا في حزبه الحاكم أو مرجعا فكريا متمثلا في الحركة الإسلامية المرجعية الأيديولوجية للنظام.
من يلقي نظرة سريعة لأبرز عناوين الصحف في أي يوم من أيام الأسبوع يلحظ مدى التردي الذي شاب جلَّ مناحي الحياة في السودان، مما يشير إلى فشل النخبة الحاكمة في اجتراح الحلول الذكية للمعضلات التي تطوق الوطن.. وهذه صحافة الخرطوم ليوم الخميس الماضي التي طالعتنا بالآتي: (مصرع 19 شخصاً في اشتباكات بين الدينكا والمسيرية)، (شُح الوقود يهدد الموسم الزراعي في ولاية القضارف)، (وزارة الإرشاد تعلن توقف عمرة شعبان هذا العام)، (العثور على سيدة مشنوقة داخل مستشفى حكومي بالخرطوم)، (مقتل طالب بجامعة الخرطوم على يد صديقه)، (وزير الصحة يأسف لهجرة الكوادر المؤهلة)، (الدولة تصرف أقل من 1% من الميزانية على الزراعة)، (متظاهرون غاضبون يقتحمون ديوان الزكاة بالقضارف)، (وزارة الصحة تتوقع تضرر 5 ملايين مواطن بأمطار الموسم)، (أمريكا تبدي استعدادا لتعزيز إجراءات الأمن بميناء بورتسودان)، (سلطات الأراضي تهدد بإزالة 138 منزلا)، (قلق أممي إزاء تقارير عن موجات نزوح عالية بالنيل الأزرق).
لن يستقيم الظل والعود أعوج، ولن تكون الانتخابات المشكوك في إجراءاتها، ولا احتفال التنصيب المزود بكل مظاهر الفخامة والأبهة، سفينة نوح لإنقاذ نظام البشير ما لم يُشرع في حلول جذرية للأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد.


‫2 تعليقات

  1. مقال ممتاز وتحليل موصوعي، لذا توقع هجوم امنجية الانترنت على كاتب المقال

  2. أتفق معك الى حد في وجوب توجيه هذه المصروفات البذخية والإنصرافية الى أشياء أكثر إنتاجية لمصلحة رفاهية الموطن ولعلي أختلف معك في تقديرات اليونيسيف هذه المؤسسة الأممية التي الحشرة التي تتغذى على جسد نحيل.