عبد الجليل سليمان

الحياة رخيصة والسلع غالية


“الحياة هنا ليست غالية.. الروح بخمسة دريهمات، وأسرعت كلاب القرية نحونا، وانحنت النساء من فوق الأسطح، وكان الأولاد يقلدون حركاتنا وهم يصرخون. كان البعض ينبح كالكلاب وآخرون يبوقون كالسيارات وغيرهم تقدموننا، وهم ينظرون إلينا بعيون كبيرة مبهوتة. وصلنا إلى ساحة القرية، كانت فيها شجرتان صخمتان من الحور الأبيض، محاطتان بجذعين منحوتين بدون إتقان على شكل مقاعد، ويواجههما مقهى تعلوه (يافطة) عديمة اللون مكتوب عليها (مقهى ومجزرة الاحتشام).
(1)
سألني (زوربا) لماذا تضحك، أيها الرئيس؟ لكن لم يُتح لي الوقت للإجابة. إذ خرج من المقهى/ المجزرة ستة رجال طوال يرتدون قمصاناً زرقاء قاتمة بأحزمة حمراء، وهتفوا: تفضلا لتناول كأس”.
الخرطوم هذا الصباح جعلتني ألجأ لسيِّد الحِكايات الرائعة (نيكوس كازانتزاكي)، واستعير منه تلك المقدمة الطويلة نسبياً قياساً بمساحة زاويتي المحدودة.
الحياة هنا في الخرطوم ليست غالية، تصرف راتبك اليوم فتشتاق إليه غداً، حقائب المدراس والكراسات والملابس والترحيل، المصروفات اليومية وكهرباء (الجمرة الخبيثة) والاحتيال على المواطن في تعرفة المواصلات العامة بتقسيم (الخط الواحد) إلى ثلاثة خطوط أو أكثر، ومضاعفة سعر التذكرة والغاز والزيت و….. ما لا حصر له ولا طاقة لنا به.
(2)
تفضلا إلى مقهى ومجزرة الاحتشام هنا، زوربا ورئيسه سيحتاران و(كازانتزاكي) سيكتب رواية أخرى، ربما يسميها الحياة الضارية.
ضراوة الحياة هنا لا تحتاج دليلاً ولا بُرهاناً، فكل شيء يعصف بالناس ويقصفهم ويرميهم بشرر كالقصر، مدفعية السلع الثقيلة، صواريخ التعليم والصحة، و(دانات) المسؤولين. قال صديقي: “الجماعة ديل بتاعين دانات بشكل”.
لا مُنجز هنا، الكل يصرخ، يُبوِّق وينبح، ثم ينظر الكل إلى الكل بعيون مبهوتة وقلوب واجفة.
(3)
ها أنذا الآن أضحك من كل شيء، تسألونني لماذا؟ لكن ليس وقت للإجابة عليكم، فها هم الرجال الستة الطوال في قمصانهم الزرقاء القاتمة يظهرون إلينا، لذا لا نملك غير أن نضحك ونتراجع.. ثم نتوقف عن الكتابة ونكف عن الثرثرة. لكن قبل أن نفعل ذلك لا بد أن نسألهم: لِمَ السلع غالية والحياة رخيصة؟ وهل لا تزال الروح بخمسة دريهمات أم انخفض السعر؟!