رأي ومقالات

د. أمين حسن عمر: رمضان شهر التخلي والتحلي


يوشك أن يجيء رمضان الشهر الفضيل شهر التحلي بالفضائل بعد التخلي عن الرذائل. وتلكم هي حكمة الشهر الكبرى فهو الميضأة التي لا ينفد ماؤها ولا يتسخ من كثرة ما يُغتسل به. هو شهر الترك ترك الطعام والشراب والنكاح وكثرة الكلام والوساوس والأوهام . هو شهر الذكر والتلاوة والتدبر والتفكر . هو شهر التخلي عن كل النقائص والتحلي بكل الكمالات. والقرآن هو المثابة التي إليها الرجعى لنعرف ما نهى عنه من سيئات فعنه يكون المنتهى والتخلى وما أمر به من احاسن الاعمال والاخلاق فبه يكون العمل والتحلى. هو شهر الصوم والصوم هو الترك والامساك عن الفعل فأول الأعمال هو الترك والتحلي ومضارعها المستمر المتواصل هو التزين والتجمل والتحلي بفضائل الأعمال والأخلاق.
موسم التغيير:
مما تعلمناه من القرآن أنه لا تغيير لواقع الأحوال من سيء إلى حسن ولا من حسن إلى سيء إلا بتغيير الإرادة الإنسانية “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فالتغيير يبدأ بتغيير ما بالنفس بتنقيتها من شوائب الرذائل من شح وبغض وحسد وهوى متبع وشهوة تأخذ بخطام النفس إلى حيث تريد. ثم بتزكيتها وتجليتها بازالة سموم المعاصي وآثار الذنوب وران الغفلة . ثم الباسها لباس احاسن الأخلاق وأجمل الشمائل والمناقب. وتغيير ما بالنفس لا يكون الابمجاهدة ومكابدة. وغافل من ظنه أمراً يسيراً. فالنفس الشاطنة طاغوت متسلط يتعسر السيطرة عليه والجامه. وهي حاكم مستبد مسيطر . وأول ما يتوجب على العاقل تحقيقه هو معنى الحرية بازاء نفسه التي ما بين جنبية فأنما هي الطاغوت الأكبر. وكسر العبودية للنفس الأمارة والجامها لتألف الأخلاق الربانية التي أساسها المحبة والرحمة هو الواجب الأوجب المستمر الذي لا ينتهي أوانه وابانه إلا بانتهاء الآجال. وهو الذي يمكن أن نؤوله فنقول أنه التقوى . فالتقوى هي ترويض النفس العاصية والجام المُهر الشموس الجموح. التقوى هي ان نظر إلى أعلى عليين إلى السماء لا إلى أسفل سافلين التي هي أغوار النفس الشاطنة . والتحرر من عبودية النفس الأمارة بالسوء لن يكون ضربة لازب بل هي مكابدة وتعب ونصب. والتحرر لا يكون إلا خطوة خطوة بإماتة رذيلة واحياء فضيلة . ولو كنا نتعلم مما يعلمنا القرآن الكريم إذ يقول ” وفي أنفسكم أفلا تعقلون” لصرنا نعلم اليوم ما نتعلمه في علوم الفيزيولوجيا أن الحيوية والطاقة والقوة والفتوة لا تكتسب إلا بأماتة خلية نافدة فاسدة واحياء خلية جديدة صليدة . ونعرف أننا لا نملأ الرئة بالهواء الطيب بالشهيق إلا إذا أفرغناها من الهواء الفاسد بالزفير . لا يكون إدخال إلا بعد اخراج لا يتم ايمان إلا بعد كفر بالكفر “فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى” والكفر بالكفر وطاغوته الشاطن عن ملكوت الله لا يكون إلا بمباعدته ومخالفته وترك ما يغري به ويدعو إليه . والايمان بالله لا يكون إلا بحب ما يحب وبغض ما يبغض . والمسارعة إلى ما يهدي إليه . ورمضان هو موسم تغيير ما بالنفس وتزكيتها بتتبع ما تهوى لمخالفته ولو كان حلالاً . فكيف يكون الحال اذا كنا نترك الحلال ثم نخوض في الحرام “قال سيدى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” وقول الزور وعمل الزور ليس هو شهادة الزور بل هو الأزوار عن الحق والتشبث بالباطل. فرمضان هو شهر ترك التشبث بالأفكار الباطلة الزائفة والأخلاق المنافقة الكاذبة والأعمال الفاسدة المفسدة .هو شهر ترك عادة الأزورار عن الحق . فالصيام حصن حصين يأوى إليه الصائم من أهواء النفس الباطلة وأشواقها الماجنة وشهواتها الجامحة . يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم “الصوم جُنة” والجُنة هو كل ما يحمى ويأوى ويحفظ والجُنة هي الترس الذي يصد ويحمي بل أن الجَنة “بالفتح” هي البستان الذي يحميه سور من الأشجار الكثيفة من غائلة كل دخيل ومتطفل. فالصوم قلعة حصينة من سيء الأعمال وسيء الأخلاق “وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فان سابه أحدُ أو قاتله فيقل أني أمرؤ صائم” وقال الشاعر :
إذا لم يكن في السمع منى تصاونُ
وفي بصري غضُ وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ
فان قلتُ أني صمت يومي فما صمتُ
شهر التدريب
ورمضان هو شهر التدريب ورياضة الأنفس على الترك والتخلي والتجمل والتحلي. هو شهر تغيير السير والسلوك بالرياضات المحسوسة الملموسة والمخفية المعنوية. فاما المحسوسة الملموسة فرياضة الجوع والظمأ وترك شهوة النوع إلى النوع. والجوع وسيلة ناجعة في قهر الشهوة والوسوسة ولذلك قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم “جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش” وقال كما رواه الغزالي وضعفه العراقي وأن كان يصح معناه “لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كُثر عليه الماء ” وقال ” ما ملأ أبن آدم وعاء شراً من بطنه” ومن حديث أبي سعيد الخدري أنه قال “البسوا واشربوا وكلوا في انصاف البطون فانه جزء من النبوة”. ومما يدل على أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ان هذا القول يتطابق مع حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما “البسوا الصوف وشمروا وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء” أما عائشة رضي الله عنها فقالت ” أديموا قرع باب الجنة بالجوع ) وكانت تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “لم يمتليء قط شبعاً وربما بكيت رحمة له مما أرى به من الجوع”. وقد علم الناس في زماننا هذا أثر الجوع وفضله فأصبحت رياضة اليوغا التي تقوم على الصوم والتأمل صرعة سائده في الشرق والغرب على ما فيها من أباطيل كثيرة. وبعد أن شاعت البطنة والبدانة في الغرب ثم أصبحت داء يتداوى الناس منه جسدياً ونفسياً تكاثرت البحوث العلمية في آثار ترك الطعام والشراب وأجاعة النفس لأمد معلوم .وعرفوا بذلك أثاراً للجوع ثابتة بالعلم والتجربة في تقوية المناعة الجسدية والنفسية . فقد ذكروا ان باحثين من جامعة جنوب كاليفورنيا أنهم قالوا ان بحوثهم أثبتت أن الجوع يكون فاعلاً في تقوية المناعة وبصوره خاصة للاشخاص الذين يعانون من ضعف منظومة المناعة لديهم كما ان الصيام يقلل من الآثار الجانبية للعلاج الكيمائي لمن يتعالجون به لأن الجوع يحفز الخلايا الجزعية عن انتاج الكريات البيضاء وإعادة تنشيط منظومة المناعة بالكامل . بيد أن أثر الصوم في المعالجة النفسية أكبر وأقوى فهو يمثل تمريناً يومياً مستمراً على الأمساك والأمتناع . وهو تدريب ضد المرض النفسى السائد في عصرنا المتمثل في الادمان على الطعام والشراب والمكيفات . وقد اصبحت تقام له المشافي وحتى أنه ظهرت أنواع وأضرب جديدة من أضرب الأدمان تتمثل في الإدمان الإلكتروني . ومنهاج علماء النفس في الشفاء من الأدمان هو تدريب الإرادة على الترك باتباع تدريب يومي منتظم يساعد المدمن على تغيير افكاره واتجاهاته لتغيير سلوكه . وذلك من خلال التأثير على المراكز العصبية المسئولة عن تنظيم الاحتياجات والغرائز . وقد ثبت ان الصوم يساعد ويحفر هذه التحولات في التفكير فبالجوع تصفو وترق الأنفس .وكان طاوس يقول لاصحابه اجيعوا بطونكم واعروا اجسادكم لعل قلوبكم ترى الله . فالجوع يورث المرء الصفاء فيرى اللطيف ويعرض عن الكثيف ومن الكثيف شهوة النوع إلى النوع . ولذلك قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطباً الشباب حاثاً لهم على الزواج “فمن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء” فالصوم معين على التلطف والتعفف.
شهر التفكر والتدبر
ورمضان هو شهر القرآن وشهر المذاكرة بين رسول الله إلى رسوله جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم . والمذاكرة مذاكرة معاني لا مذاكرة مبانى فقد تكفل الله سبحانه وتعالى لعبده ورسوله أنه لا ينسى القرآن حتى يُذكر به والقرآن هو ميزاب المعاني التي لا تنفد ولا تفنى “قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً” .
وكان سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكر القرآن مع جبريل ويتأمل ويتفكر ويتدبر معانيه لأن القرآن هو معينه الذي منه الرواء وهو مصباحه وسراجه المنير الذي يستمد منه الضياء ليكون هو بما يتمثله من معاني القرآن السراج المنير للعالمين والضياء الهادي للمؤمنين. ورمضان هو شهر التلاوة والتدبر للصائمين بعد صفت العقول والنفوس وصفدت الأباليس الشاطنة فهدأت الوساوس والبلابل. ولذلك هو شهر التوبة والأوبة هو شهر تغيير السير والسلوك بالتخلي عن الذميم والتشبث بالصراط المستقيم .فاذا قرأ المرء القرآن فليقرأ حاضراً قلبه منتبهاً جنانه مستحضراً الهيبة باكياً فان لم يبك فليتباكى كما قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إذا قرأتم القرآن فأبكوا فان لم تبكوا فتباكوا” أي أطلبوا البكاء بالمزيد من الفكرة اليس هو القائل “أنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم” والخلق الحسن بالتخلق وعلماء النفس يقولون تصنع السلوك الحسن حتى تعتاده ويقولون Fake it till you make فرمضان شهر للاعتياد والإرتياض على مكارم الأخلاق والقرآن وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي البحر الذي تُقام عليه المشارع.
شهر التخلي عن البخل والتحلي بالكرم
كان سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كريماً جواداً ولكنه كان في رمضان كالريح المرسلة . ولا غرو فالنفس الوادعة الصافية لن تبخل بودها وحبها وما الكرم إلا ثمرة للرحمة والمحبة . والصائم يحرم نفسه ليعطي غيره والبخيل يحرم غيره ليكنز لنفسه . والبخل عار يُستعاذ منه ومرض من أمراض النفوس ذميم. ورمضان هو شهر الاطعام فأنت تضاعف صيامك أضعافاً مضاعفة بقدر ما تطعم من الصائمين فكأنك تقطف ثمرة صيامهم إلى سلتك دون ان ينقص ذلك من أجرهم شيئاً . وأنت في رمضان تكون رحمانياً ترحم عباد الله كما يرحمهم خالقهم فمن يرحم عباد الله على الأرض يرحمه الرحمن رب السماء والأرض . وشهر رمضان هو شهر إخراج الزكوات والصدقات . وهو شهر يبدأ بصدقة الإطعام ويختتم بصدقة الفطر. والعطاء في رمضان ليس عطاء المال أو الطعام فحسب بل هو عطاء الكلمة الطيبة . والمبادرة بالخير وإسماع الناس ما يحبون وتجنيبهم ما يكرهون وكف الأذى عنهم قولاً وفعلاً . هو شهر التخلي عن الرفث والصخب وإيثار الصمت عن هذر الكلام. وهو شهر التحلي بالكلام الحسن فالبخل بميسور القول أنكى من البخل بالمال والطعام . والكلمة الطيبة لا تكلف صاحبها إلا إنفراج الشفة عن الشفة ولكنها عند سائر الناس ثقيلة على الأفواه شحيحة بها الألسن المسارعة في كثرة السؤال والقيل والقال. ورمضان هو شهر التخلي عن المشاحنة والتخاصم والتحلي بالمصالحة والتراحم فذلك من خلق أهل الجنة أنهم منزوع الغل من صدورهم “أخواناً على سرر متقابلين”
رمضان وما رمضان
وأسم رمضان مشتق من الرمض والرمض هو انتقال حرارة الشمس إلى الرمل والحجارة . والرمض هو اكتساب تلك الرمال والحجارة للحرارة فما علاقة الشهر بأسمه ؟ فلاشك أنه ليس بسبب شدة الحر فيه لأنه قد يأتي شتاء كما يأتي صيفاً ولا أجابة يمكن للمرء ان يقطع بصحتها . ولكني أحب أن أفهم أن معنى اكتساب الرمل للحرارة ولطاقة الشمس التي سبب من أسباب النمو والحياة هو المعنى المراد . فالحرارة طاقة متجددة يكون منها الضياء وتكون منها الحركة ورمضان يطلع علينا كل عام بطاقة جديدة لنستخدمها في إعادة بناء الحياة كما نحب لها أن تكون ما يحب لها الله ربنا ان تكون . فالحمد لله رب العالمين الذي أعاد الينا شهر الرحمات والبركات ونسأله وندعوه ونتضرع إليه إلا يفارقنا رمضان إلا وقد تغيرت أحوالنا من حال الغفلة إلى حال الإنتباه ومن حال الضعف إلى حال القوة ومن حال الاتباع لنفس أمارة غافلة إلى نفس لوامة آمنة مطمئنة بأذن الله خالقها وبارئها وهاديها إلى صراطه المستقيم.

د. أمين حسن عمر


‫2 تعليقات

  1. هاردلك يا أمينو يبدو ان البشير و زمرته قد ابعدوك نهائيا” من المشهد فأنت تعلم انهم لا يحبون الا من يقول نعم و ينفذ التعليمات , أحسن ليك ركز في ما تبقى من العمر في ما يفيد اخرتك .

  2. الكلام قولو لنفسك ولزمرتك الفاشلة يا فاشل . ان ما عارف اناس ديل فكرين نفسهم شنو.
    واحد عاقل يقول لى هذا الغير امين القبيح عملو شنو مفيد فى حياته لنفسه وولسودان غير القبح.