رأي ومقالات

سوداني الجوه وجداني


أن تسافر برا في السودان ذلك يعني انك حتما ستتوقف في الطريق لبعض شأنك .. لنيل قسطا من الراحة…او تناول بعض ما يسد الرمق من اكل او شرب …في اماكن اللقاء تلك ..تجد نفسك مختلطا باناس ربما لا تراهم مرة اخرى في حياتك …تشاركهم بعض التعليقات عن تعب السفر ..ربما مد احدهم لك بكوب من الشاي او كيسا من الترمس …يمازحك ببعض النكات عن الحكومة والناس المظلومة …ثم تصفر المركبات ويمضي كل في طريقه كانه لم يلتقيك من قبل…جمالية اللقاء العابر حكى عنها الطيب صالح في روايته العبقرية (موسم الهجرة الى الشمال…عندما حكى الراوي عن لقاء ( اللواري ) ذات مساء في صحراء الشمال …التقى جمع المسافرين من كل حدب وصوب ..اكلوا وغنوا ورقصوا وتبادلوا تدخين اللفافات …ثم أذن مؤذن الرحيل فاتجه كل الى راحلته وتفرق الجمع …وعندما نظر الراوي خلفه الى تلك البقعة التي كانت تضج حياة قبل قليل …فاذا بها بقعة جرداء كغيرها من البقع لا يميزها شئ سوى الذكريات ……أذكر قبل فترة وكنا في طريق العودة من وادي حلفا ..توقفنا في دنقلا لتناول وجبة الافطار …كانت فرصة لنتجول في انحاء مدينة سمعت عنها كثيرا ولكني أزورها لاول مرة….أخذتنا خطواتنا لمطعم (اسعد)…كان الرجل هاشا ببساطة اهل السودان ..صاح في شاب من البعد (أبكر ..شوف مكان للضيوف )…اتى ابكر تسبقه ابتسامة لؤلؤية….احضر (جردلا) صغيرا من الماء البارد …كان اول تعليق لاخي (شوف طعم النيل الحقيقي…موية عذبة زلال )…وبالفعل كان طعم الماء جميلا بصورة مرعبة ….قلت لاخي (دا طعم الماء البارد ..وليس المبرد بالثلج )…أتى أبكر بالفول (الزي الزبدة)..تزينه قطع الجبن الأبيض وتتناثر على سطحه (الطعمية المفتتة)….طعم زيت السمسم مع الشمار الأخضر ….(فول زي العسل ) …قالها صلاح الدين اخى بعد ان اجهزنا على الفول وتبعاته …فاردفه عبدالرؤوف اخي (دايرين شاي اصلي )…سألنا حاج أسعد عن الشاي ..فصاح مرة اخرى (أدروب بالله شاي بالنعناع لضيوفنا )…وقد كان شايا اصليا بنعناع طازج … سال اخي .. أدروب مازحا (يا ادروب انتوا ما ناس قهوة مالكم ومال الشاي )..رد عليه ادروب (نهن ناس الكيف كلو يا هاج شاي ..جبنة أي هاجة)…فهز اخي راسه موافقا ….في تلك اللحظة قلت لاخوتي (انتوا عارفين !!!..المطعم دا فيهو السودان كلو )… أسعد صاحب المطعم لونه أبيض مشربا بالحمرة اعتقد انه من الشمال ..أبكر كان واضحا انه ينتمي لدارفور الحبيبة…ادروب قطعا ومن كل بد هو من البجا …زبائن المطعم تعددت سحناتهم من شماليين الى الوسط الى الغرب والشرق ..فقد اتي الكثيرون الى الشمالية بحثا عن الذهب (كان حقو يعملوا مؤتمر الحوار المجتمعي هنا)…قال اخي وهو يتلفت حوله …كانت أصوات الاحاديث المتبادلة طاغية وكذلك الابتسامات ..ممازحة ادروب والضحك مع أبكر ..صياح عم أسعد …كانت لوحة رسمها الود وتمثل فيها السودان …فقلت لنفسي ما الذي حدث؟؟؟؟لماذا تفرقنا كل في اتجاه وحملنا السلاح ضد بعضنا البعض؟؟؟لماذا فقدنا اجمل ما فينا …..الروح السودانية؟؟؟متى تسيدت لغة القبيلة وتعالى الانتماء الجهوي على روح الوطن…..لماذا سمحنا لرياح الفرقة بان تهب وصرنا نبكي وطنا كان حتى وقت قريب مضرب المثل في التوادد والتراحم ويكفي ان تلتقي سودانيا في أي بقعة من العالم لكي تتنهد بارتياح وتقول (خلاص وصلت)….عندما تحركنا من مطعم عم أسعد …نظرت خلفي فوجدت ان البقعة لم تصبح خالية كما في رواية الطيب صالح… فقد اتاها اخرون غيرنا ..كما الحياة نفسها …دائما ما يكون هناك من يملأ المكان الخالي بعدنا ….نمضي نحن وياتي اخرون وتعيش الاماكن تحمل ذكريات من مروا بها ذات سفر…..حملت تساؤلاتي وحسراتي وذهبت ولازال في نفسي شئ من حتى…. ويا دنقلا الشامخة (راجع ليك من تاني …عشان هدتني احزاني …عشان ماضيك هزم عمري ..يا الضيعت عنواني )…وصباحكم وطن

د. ناهد قرناص


تعليق واحد