الطيب مصطفى

وزير العدل والمهمة المستحيلة!


إذا كنت قد كتبت بالأمس عن مغزى شغل بروف غندور منصب وزير الخارجية، وما يمكن أن يفعله لحل مشكلة التطبيع مع الغرب بصفة عامة، وأمريكا بصفة خاصة إنْ أعانته الدولة بقرارات جريئة وشجاعة في الداخل والخارج يقتضيها التفاعل مع ما يُسمى بالمجتمع الدولي، فإن أهم تغيير آخر في التشكيل الوزاري الأخير قد طال وزارة العدل ذات الدور الخطير في إرساء قيم العدالة والطهارة والحكم الراشد، خاصة إذا كانت تقوم بأعباء النائب العام، وليس وزير العدل السياسي التابع للسلطة التنفيذية، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
رغم ذلك فإن في كنانة الوزير الجديد د.عوض الحسن النور الكثير مما يمكن أن يقوم به، سيما وأنه جاء من خارج حوش وزارة العدل، الأمر الذي يتيح له أن يكون حراً طليقاً يتخذ قراراته (من خارج الصندوق)، خاصة إذا فتح بابه للخارج ولم يغلق أذنيه إلا من همس الداخل الذي سيزّين له الأمور ويقنعه بأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان!.
أحسبُ أن د.عوض ما جيء به إلا ليواكب قيام مفوضية الشفافية ومكافحة الفساد، وإذا كان خطاب الرئيس قد تعهد بمنحها صلاحيات واسعة مع تبعيتها للرئيس دون غيره، فإن ذلك يقتضي كذلك دوراً فاعلاً لوزارة العدل وتغييرات هيكلية تطول كل من حامت حولهم مجرد الشبهات؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، سيما وأن المفوضية تحتاج إلى إصلاح هيكلي مواكب في وزارة العدل.
تحضرني في هذا المقام قضية التحلل ومكتب الوالي التي – ويا للعجب – طواها النسيان، رغم أن وزير العدل السابق مولانا دوسة تعهد برفعها للقضاء، وأعجب ما في الأمر أن لجنة (التحلل) كان قد شكلها وكيل وزارة العدل، وتساءلنا وقتها عن كيفية تعامل اللجنة مع الوكيل إن كانت ترغب في التحقيق معه حول فترة توليه منصب المدير العام للأراضي بولاية الخرطوم، خاصة وأن قضية التحلل ومكتب الوالي كانت في الأصل مرتبطة بفساد في الأراضي؟!.
وزير العدل الجديد مطلوب منه النظر في كل إدارات وزارته، بما في ذلك مكتب المسجل التجاري وإدارة الثراء الحرام وغير ذلك من الإدارات، مع إعادة النظر في بعض القضايا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس مثل قضية المستشار مدحت وقضية الأقطان وتحكيمها، بل على الوزير أن يفتح بابه لتلقي الشكاوى من المتضررين والمظاليم وما أكثرهم.
إن الظلم داءٌ قديمٌ خلق مع الإنسان الذي جُبل على فعل الشر بأكثر مما جُبل على الخير، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، ويعلم الناس أن ابنيْ آدم (قابيل وهابيل) قتل أحدهما الآخر ونزل القرآن الكريم يحكي حتى نعلم أن حياتنا لن تخلو من ظلم ذوي القربى حتى لو كانوا أشقاء، ولكن الله الحكم العدل حرم الظلم على نفسه وجعله بين البشر حراماً، فكيف نستجيب لأمر الله ونحارب الظلم ونقيم العدل؟.
أكثر ما ينبغي للوزير أن يحرص عليه أن يتحقق من أن وزارته خالية من الفساد، إذ لا يمكن للمفسد أن يقيم العدل، وليته يبدأ بذلك قبل أن ينشغل بتعديل القوانين والتشريعات رغم أن الإصلاح التشريعي أهم ما يُنتظر منه.
صحيح أن العدالة لن تكتمل ما لم يستقم الشق الآخر من المنظومة العدلية المتمثل في القضاء، وهذه مسألة شائكة خاصة وأن أحد أهم مطلوبات العدالة مفقود تماماً وأعني تحديداً قِصر وقت أو زمن التقاضي.
عندما أقرأ عن سيرة القاضي شريح الذي عُيّن زمن الفاروق عمر بن الخطاب وهو يقضي في الغالب بين المتخاصمين في جلسة واحدة مهما بلغت درجة تعقيد القضية، وأقارن مع نظامنا القضائي الذي كثيراً ما يُتوفى المتقاضيان أو أحدهما قبل أن يفرغ القضاء من نظر الدعوى في أطوارها المختلفة، بينما يبرع المحامون في إطالة أمدها حتى يتضاعف الأجر وتتداعى القضية من محكمة إلى أخرى ومن درجة إلى درجة ومن استئناف إلى محكمة عليا، ثم إلى مراجعة، وكل درجة من درجات التقاضي تستغرق أشهر متطاولة، وسنين عدداً، في بعض الأحيان أوقن أننا لا نتحاكم إلى شريعة حتى ولو كانت مدغمسة، فقد والله قالها حتى الخواجات من بني علمان أن تأجيل العدالة يعتبر ظلماً بيناً، فبالله عليكم هل نبتغي العدالة في نظام قضائي ظالم؟.
عندما يحجم المظلوم من اللجوء إلى القضاء لأنه يخشى الظلم الناشئ عن التأجيل والتطويل من تراه هو المسؤول أمام الله رب العالمين؟.
قضاؤنا التقليدي (محاكم العمد) كانت أرحم وكان العمدة ولا يزال يصدر حكمه في جلسة واحدة، ولو أحيلت القضية نفسها التي يقضي فيها العمدة إلى محاكمنا الحالية لاستغرقت سنين ذات عدد!.
آسف للاستطراد، فأنا أعبر عن مأساة عجزنا عن استنباط نظام قضائي يحقق العدالة بعد أن استوردنا نظاماً يقوم على مؤسسات وقوانين علمانية، واستدبرنا إرثنا التاريخي التليد وعمقنا الحضاري العظيم.