احلام مستغانمي

إنّ الذي مات أبوه لم يَتيَتَّم.. وحده الذي ماتت أمّه يتيم !


لقد كان ذلك المثل الشعبي على حقّ «إنّ الذي مات أبوه لم يَتيَتَّم.. وحده الذي ماتت أمّه يتيم».
وكنت يتيمًا، وكنت أعي ذلك بعمق في كلّ لحظة. فالجوع إلى الحنان، شعور مخيف وموجع، يظلّ ينحر فيك من الداخل ويلازمك حتَّى يأتي عليك بطريقة أو بأخرى.
أكان التحاقي بالجبهة آنذاك محاولة غير مُعلَنة للبحث عن موتٍ أجمل خارج تلك الأحاسيس المرضيّة التي كانت تملأني تدريجًا، حقدًا على كلّ شيء؟
كانت الثورة تدخل عامها الثاني، ويُتمي يدخل شهره الثالث، ولم أعد أذكر الآن بالتحديد، في أيّ لحظة بالذات أخذ الوطن ملامح الأمومة، وأعطاني ما لم أتوقّعه من الحنان الغامض، والانتماء المتطرِّف له.
وربّما كان لاختفاء سي الطاهر من حيّنا بسيدي المبروك منذ بضعة أشهر، دَور في حسم القضيّة، واستعجالي في أخذ ذلك القرار المفاجئ. فلم يكن يَخفى على أحد أنّه انتقل إلى مكان سرِّيّ في الجبال المحيطة بقسنطينة ليؤسِّس من هناك مع آخرين إحدى الخلايا الأولى للكفاح المسلّح.
من أين عاد اسم سي الطاهر اللّيلة ليزيد من ارتباكي، ومن منكما استدرجني للآخر؟
من أين عاد.. وهل غاب حقًّا، وعلى بعد شارعين منّي شارع ما زال يحمل اسمه؟
هناك شيء اسمه «سُلطة الاسم».
وهناك أسماء عندما تذكرها، تكاد تُصلح من جلستك، وتُطفئ سيجارتك. تكاد تتحدَّث عنها وكأنَّك تتحدَّث إليها بنفس تلك الهَيْبة وذلك الانبهار الأوَّل.
ولذا.. ظلّ لاسم سي الطاهر هَيْبَته عندي. لم تقتله العادة ولا المعاشرة، ولم تحوّله تجربة السجن المشترك، ولا سنوات النضال، إلى اسمٍ عاديّ لصديق أو لجار. فالرموز تعرف دائمًا كيف تُحيط نفسها بذلك الحاجز اللّامرئي، الذي يفصل بين العادي والاستثنائي، والممكن والمستحيل، في كلّ شيء.
ها أنا أذكره في ليلة لم أحجزها له..
وبينما أسحب نَفَسًا من سيجارة أخيرة، يرتفع صوت المآذن مُعلِنًا صلاة الفجر. ومن غرفة بعيدة يأتي بكاء طفل أيقظ صوته أنحاء كلّ البيت..
فأحسد المآذن، وأحسد الأطفال الرضّع، لأنَّهم يملكون وحدهم حقّ الصّراخ والقدرة عليه، قبل أن تروّض الحياة حبالهم الصوتيَّة، وتعلِّمهم الصمت.
لا أذكر من قال «يقضي الإنسان سنواته الأولى في تعلّم النطق، وتقضي الأنظمة العربيّة بقيّة عمره في تعليمه الصمت!».
وكان يمكن الصمت أن يصبح نعمة في هذه الليلة بالذات، تمامًا كالنسيان. فالذاكرة في مناسبات كهذه لا تأتي بالتقسيط، بل تهجم عليك شلّالًا يجرفك إلى حيث لا تدري من المنحدرات.

مقطع من “ذاكرة الجسد”