مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : لم يُهزَم أردوغان ولم تخسر المرأة التركية


ليس من العدل وصف نتائج الانتخابات التركية الأخيرة بهزيمة حزب “العدالة والتنمية”، لمجرد عدم تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده، على الرغم من تقدمه على أقرب منافسيه. تراجع الحزب، وكسب رجب طيب أردوغان، شرف التأسيس لعملية ديمقراطية حقيقية راسخة، أثمرت نتيجتها عن المشاركة السياسية الفاعلة، والتي بلغت 87%، ممهورة نتيجتها باحترام الشعب التركي، على اختلاف أحزابه وتوجهاته. لم يسعَ أردوغان إلى إنكار نتيجة الانتخابات، أو اتهام منافسيه، أو الانقلاب على الشرعية، بل زاد على ذلك بشجاعة الاعتراف بأنّ ما أوصل إلى نتائج الانتخابات هو ما اعترى المرحلة الأخيرة من هنّات، لعب فيها دوراً، بينما لعبت فيها الظروف التركية الداخلية والأحداث الإقليمية الدولية أدواراً.
ليست مصادفة أن تتم الانتخابات والداخل التركي يشتعل بسبب مجازر الأرمن التي حدثت عام 1915، وتمرُّ ذكراها المئوية هذا العام. كما ليس غريباً أن تمتد أصابع الغرب، ابتداءً من كيم كارديشيان التي عادت فجأة إلى جذورها، لتوقد الشموع على مراقد أسلافها، إلى البابا فرانسيس، ليُحاكم أردوغان على قضية الأرمن التي تصفها الدول الغربية بالإبادة، وتطالب بإقامة محاكمات سياسية وقانونية وأخلاقية لتركيا بسببها. لم يكن أردوغان متعهّد الدولة العثمانية، حتى يقف للتصدّي لهذه الاتهامات، متنكباً عنَت الدفاع عن دولته التي كان يُراد معاقبتها في ظلّ حكومته على مجازر مسّت تاريخ تركيا كلها، لأنّها شملت ضحايا من الأتراك والأكراد، كما الأرمن، في ظروف الحرب العالمية الأولى، وما دار في كواليسها من خفايا تحالفات وخيانات، وزرع عملاء وجواسيس.
حملة أرمينيا الديبلوماسية والدولية الهادفة إلى المطالبة بأراضٍ، تقول إنّها تابعة للأرمن داخل تركيا، والمدفوعة بالغرض الغربي، كوّنت شعوراً شعبياً عاماً نحو نصرة الأقليات المستثمرة للاستظلام التاريخي، ما جعل الأصوات الانتخابية، على الرغم من كثافتها تتفرّق أيدي سبأ بين الأحزاب التركية.

لم يبق غير أن تمضي تركيا في طريقها، على الرغم من دور القوى الإقليمية التي لا يهدأ لها بال

أمّا المغالطة الأخرى في ثوب الحقيقة، وتسعى بها بعض وسائل الإعلام العربية تشفياً من حزب العدالة والتنمية، فهي حصول المرأة التركية على أكبر نسبة تمثيل في البرلمان التركي وللمرة الأولى. ويصبح مخجلاً جداً وقوف الأخبار عن هذا الحدّ، من دون إيضاح أنّ نسبة تمثيل المرأة في هذه الانتخابات وصلت إلى 18%، بما مجموعه 98 نائباً تمكنّ من دخول البرلمان، والكفّ، بالطبع، عن إيراد التفاصيل بأن 42 امرأة عن حزب العدالة والتنمية و31 امرأة عن حزب الشعوب الديمقراطي و21 عن حزب الشعب الجمهوري و4 عن حزب الحركة القومية حققن إنجاز دخول البرلمان التركي الجديد.
لم يُرجع هؤلاء إلى أنّ ما حققته المرأة التركية، بهذا الحضور المميز في انتخابات الأسبوع الماضي، هو عملٌ تمّ على مدى زمن طويل من حكومة أردوغان التي حاولت أن توائم بين هويتين متقابلتين، هما الهوية العلمانية والدينية. وإن كان حضور الشقاق بين الهويتين كبيرٌ وواضح، فإنّه في حال تنزّله على المرأة يبدو أكثر بروزاً وسطوعاً. ولم يعمل أردوغان ذلك كله من فراغ، وإنّما أنعش الحركة النسوية التركية التي ترجع جذورها إلى السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، حيث ظهرت حركات نسوية كثيرة عام 1908، إبّان الثورة على السلطان عبد الحميد الثاني، وإعلان الإصلاحات الدستورية. وهذه الحركة النسوية التي وُجدت منذ الحقبة العثمانيّة، شهدتْ مراحلَ صعودٍ وهبوط حتى ثمانينيّات القرن الماضي، ثم عادت إلى الظهور صوتاً معارضاً.
قد يبدو صحيحاً ما اعتبرته بعض الأصوات من أنّ التوجه الإسلامي في تركيا أنتج الحركة النسوية الإسلامية الجديدة، في اهتمامها بنساء الطبقة الوسطى، بعدما كان جلّ تركيزها على مسألة حق المرأة في ارتداء ملابس نسوية، ذات صبغة دينية، بما يمكن اعتباره جزءاً من حرية المرأة. ولكن، الأصحّ من هذا أنّ الارتقاء كان في الانتقال من الاهتمام بالمظهر إلى جوهر الظاهرة الحضرية النموذجية، المتمثلة في ازدياد الوعي السياسي، بعدما كانت نساء الريف لا يتم إشراكهنّ، إلّا في النشاطات المدنية للتأييد، أو الاحتجاج. كما كسبت المرأة التركية تطور تفسيرات دينية حديثة، بما حققته رئاسة الشؤون الدينية في مجال الحقوق من إصلاحاتٍ، شملت إعطاء المرأة سبل الوصول إلى مناصب دينية، كانت من قبل حكراً على الرجال.
ربطت تركيا، بشكل وثيق، تاريخها الإسلامي مع العلمانية، فبعد عقود من الكفاح بين هاتين الهويتين، قامت تركيا، وهي الحليفة في حلف الناتو، والتي تحاول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بتطوير هوية هجين تغطي الناحيتين. ونتيجة لذلك، أصبح يُنظَر إلى تركيا، وبشكل متزايد، على أنّها وجه ليبرالي تقدّمي للإسلام على المسرح الدولي، تُثبِت التزامها بتمكين المرأة، بالانسجام مع الروح الحقيقية للدين.

الكرة الآن في ملعب الأحزاب التركية المعارضة، للحفاظ على الحالة الوطنية التي أسهم فيها أردوغان وحزبه، خلال الاثني عشر عاماً الماضية

على الرغم من وضع تركيا تشريعات مهمة في مجال حماية المرأة وحقوقها في عهد حكومة أردوغان، فإن نسب مشاركتها في سوق العمل تراجعت لعدة أسباب، ليس منها تضييق حزب العدالة والتنمية الحاكم على المرأة. من هذه الأسباب ما يتعلق بخصخصة مراكز الاهتمام بالأطفال في أثناء ساعات العمل. وهناك أسباب أخرى لمحدودية مشاركة المرأة في اليد العاملة والمجال السياسي، والتي تمّ إرجاعها إلى التحديات التي تواجه وجود المرأة في القطاع العام. ففي إحدى المناطق الريفية التركية، لاحظت جمعية لمناصرة حقوق المرأة أنّه بينما لا تحتاج النساء المتزوجات إلى موافقة أزواجهن من أجل العمل، تبقى 50% من النساء المتزوجات المقيمات في تلك المنطقة غير قادرات على العمل، لأنّ أزواجهنّ لا يسمحون لهنّ بذلك، فضلاً عن محدودية المشاركة السياسية التي تُعدُّ رفاهية في الريف.
وهذا لفت الانتباه إلى أسباب انخفاض عدد النساء في تركيا، ممن يشغلن أو يبحثن عن وظائف، عن مثيلاتهن في الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، والتي تبدو فيها الأسباب بعيدة عن تسلط حزب العدالة والتنمية على النساء. وإنّما يُعزى السبب في ذلك، جزئياً، إلى أنّ النساء هاجرن من المناطق الريفية، حيث كن يشتغلن بالأعمال الزراعية من دون الحصول على أجر، إلى المناطق الحضرية حيث يبقى معظمهن في المنزل.
وعلى العكس من كل تلك الاتهامات، فقد أدّى إصلاح القانون المدني التركي في عهد أردوغان في العام 2004 إلى تعديلات ملحوظة، تحمي حقوق المرأة الجنسية والجسدية والإنجابية، ما شكّل إنجازاً للجمعيات النسائية. وهذه تُعدّ من المكتسبات النسائية التي أوصلت المرأة التركية إلى إنجاز دخول البرلمان بهذه التعددية في انتخابات هذا العام.
يبدو جليّاً من هذين النموذجين أنّ الصراعات السياسية التركية تعزف على وتر الأقليات. وإن بدا ذلك في غير مواجهات حادة، فذلك لأنّ الداخل التركي أثبت قدرته على احتواء هذه الاختلافات التي تشكّل إحدى سمات تاريخه السياسي الحديث. ومما يزيد من هذا التحدي أنّ الكرة الآن في ملعب الأحزاب التركية المعارضة، للحفاظ على الحالة الوطنية التي أسهم فيها أردوغان وحزبه، خلال الاثني عشر عاماً الماضية. لم يبق غير أن تمضي تركيا في طريقها، على الرغم من دور القوى الإقليمية التي لا يهدأ لها بال. فقد تحولت هذه القوى إلى هدف النفخ في نار تركيا، تلك العادة التي أدمنتها، بعدما أشعلت المنطقة، وأصبح لا يُرجى برؤها أو إخماد نيرانها.