حسين خوجلي

ليلة من ليالي القاهرة


< الأحزاب العربية والسودان ليس استثناءً لا تقابلك في البيت ولا الشارع ولا الجامعة ولا المسجد.. أحزاب لا تختلي بمؤيديها ولا تربت على أكتافهم ولا تهديهم سبل الرشاد.. الأحزاب تقابل جماهيرها فقط في التلفاز فيضطر المعذبون في الأرض إلى إغلاقه وإغلاقها. < فنانة لبنانية اسمها (مروى) غنت في شاطئ العجمي بكلمات هابطة وبصدر مكشوف وحركات لا تفعلها غوازي شارع محمد علي في باطن الأسرة هجم عليها الجمهور فظنت الغبية أنه الإعجاب فاكتشفت وهي ترتعد أن الشباب حاولوا اغتصابها أمام الكاميرات وأمام الآلاف فتبدلت ابتسامتها إلى هلع واضطرت أن تلجأ لبيت جيران المسرح حتى الصباح وخرجت في حماية الشرطة. أحد ظرفاء المقاهي المصرية جاذبني أطراف الحديث حول الحادثة.. وتحدثنا عن الشباب والراقصة ونحن نتأمل الخدوش على صدرها العاري في الجرنال فقلت له لقد ذهب (الحياء)، فابتسم ابتسامة تشبه سخرية أحمد فؤاد نجم وقال لي (الحياء) يمكن أن نعيده ولكن كيف يمكننا استعادة (الحياة)؟.. وتحدث بلغة فيلسوف شعبي فكانت حكمته وبيت قصيدها.. كل العواصم تعيش على الهامش ولا تمارس حق الحياة التي تعارف عليها الناس. < في كل يوم تغتال اسرائيل قائداً وفي كل يوم تغتال شارعاً وفي كل يوم تحتل أرضاً وفي كل يوم تذل أسرة وقرية ومدينة وأمة. اني أتعجب كيف يأكل الرؤساء العرب الطعام وكيف يضحكون وكيف ينامون وكيف يغلقون الأبواب على زوجاتهم وكيف يحلمون وكيف يمارسون سنة الخضوع لسادتهم الأجانب وهم بلا أرواح بل أشباح لم تفقد حيز الصيرورة بل أنها فقدت حتى غريزة التمنع المجاني؟ الدم العربي عندهم أصبح إضافة حقيقية في علم الألوان فالرجاء الجماهيري أن تصرف بلايين البترول على شاشة بلازما أشد نقاوة وتقنية فأعداؤنا لم يعودوا يحلمون بمشاهدة باهرة وقانية لدمنا بل أنهم يرغبون في مشاهدة المواطن العربي يشرب دم أخيه لأنها الطريقة الوحيدة في وراثة الشهداء والضحايا والموت غيظاً وبأساً. < فجع الشارع المصري بأن مهندساً شاباً أغلقت أمامه منافذ الأمل لشقة تجمعه بعروسه المرتقبة التي هددته بالمفارقة إن لم يحسم الأمر ويدبر حاله.. فضيق الخناق على والديه العجوزين ليغادرا فاضطرت الوالدة من التعذيب أن تهرب.. وصمد الأب الكبير في شقته التي لو تركها لاستظل بالشارع وإلتحف السماء وليته فعل.. وفي لحظة هياج جنوني مارسه الابن العاق ضد والده الذي استمسك بحقه في البقاء هرول الابن صوب المطبخ وأتى بزجاجة صلدة هشم بها رأس والده وعندما حمله أهل الحارة للمستشفى كان المسكين قد فارق الحياة.. واروا الجثمان وسلموا المهندس الشاب إلى قسم الشرطة لمواجهة التهمة (وإنتهى الخبر الحزين) وانتهت قصة أسرة مفجوعة وموجوعة.. ولو كنت في مكان أهل الحارة لما ذهبت إلى الشرطة لو كنت مكانهم لذهبت لجامعة الدول العربية ووقعت بالدم (إن حرمان الشعوب العربية من أي مشروع قومي موحد بين الجماهير والعواصم والامكانات والآلام والآمال لن يعدم الابن ويقتل الأب ويشرد الأم ويغلق الأسرة فقط بل أنه سيتنامى إن عاجلاً أو آجلاً لينال من الأحياء والمدن والشعوب فيسقط الجميع بالتتابع وهكذا حدثنا التأريخ بأن الحضارات تسقط هكذا..). < ما زال الشعب المصري الظريف رغم مرور السنوات يحاول ابتلاع جرح الهلال (حبة حبة) ويساعد البلع بماء النكتة.. انهم يقولون هذه الأيام بديلاً في القسم أمام النساء (طلاق بالثلاثة) (هلال بالثلاثة) والزملكاوية لهم باع طويل في التوزيع خاصة وأن صحافة الأهلاوية قد سخرت منهم قديماً حين أقصاهم الهلال. < كل يوم أنزل فيه المكتبة أجد أكثر من مائة عنوان جديد في شتى المعارف فلا اليد تلحق ولا العين تمتلئ.. نحن في السودان نصف الشعب المصري ولكننا لا نصدر كتاباً يستحق الإشادة في عام.. عفواً لكنني تذكرت أننا نصدر مائة كتاب في اليوم عبر دار المشافهة للنشر والتوزيع.. < والي جديد وحكومة جديدة بولاية الجزيرة وإعلان مرتقب عن معتمدين جدد. فأين البرنامج والتمويل.. ولم أجد بيتاً من عيون التهنئة أمضى وأعمق من (عزيزتي مدني كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟). < في قلب التناحر الذي تمارسه النخبة لإذكاء الفتنة في مصر بين المسلمين والأقباط خرج أثنان من الأصدقاء أحدهما قبطي وآخر مسلم للسباحة وغدر بهما النيل وحاول كل واحد منهما أن ينقذ صديقه فمضيا سوياً نحو موت رامز. الحكاية مسحت على آلاف الخطب الجوفاء وقضت على آلاف الضغائن.. ومضت على نفوس الناس ببقاة من الورود اليابسة بيد أن الزمن اللئيم لم يستطع أن يلغي العطر في عروق الورود. < مازلت أتجول في شوارع القاهرة بلا بطاقة وبلا حذر وبلا خوف وفي وجداني حديث أساتذتي من المصريين بجامعة القاهرة (برغم الحدود والبطاقات ووثائق السفر فإن واحداً منكم إذا سار في عاصمة عربية فظن أنه غريب فهو خائن) ولذلك فإن الهروب من نعت الخيانة يعلم الجميع الشجاعة المتأملة. < اشتريت الأطلال والبردي والطلي وهذه ليلتي وفكروني لآم كلثوم وسورة الكهف والرحمن بصوت عبد الباسط عبد الصمد فنظر لي صاحب المحل في استغراب قلت له حتى تتأكد ان زمان الاستماع العربي لم ينقض وأن الاستماع بالأرجل سيذبل رويداً رويداً عندما تستعيد العقول والمشاعر دولتها وعزها وجدارتها ابتسم واكرمني بخصم مقدر تقديراً لعودة أحد المخلوقات من كوكب منسي. < جاءت الحكومة وذهبت وجاءت المعارضة وذهبت وجاء السفراء وذهبوا وجاء رجال الأعمال وملأوا الشقق والليالي والمشافي وذهبوا جاء الباعة والسابلة وشذاذ الآفاق والباحثون عن الهجرة والباحثون عن الهروب وذهبوا وبقي السر قدور وحده كصخرة راكزة على ضفة النيل وهو يهزأ بالعتمور.. بقي السر قدور وحده في القاهرة يأنس الجميع ويحتضن الجميع ويتفق مع الجميع في اختلاف ويختلف مع الجميع في إتفاق.. يحاضر الجميع سلاسة عن أيام السودان الوادعة والمتفق عليها حول السياسة والاجتماع والغناء والذكريات والاخوانيات وكلما قدع الصلف السياسي شعرة مع مصر عقدها وجددها السر باللطف والوطنية تارة وبالحزم والسخرية تارات. جلست معه في دعوة امتدت حدثنا فأقنع وغنى لنا فأمتع وأنشد لنا شعراً جديداً وقديماً فعلقنا في وادي عبقر وذهب لا يبالي بضحكة مجلجلة كأنه طفل غرير ما زال ممزق الولاء ما بين الدامر ونادي البوستة بأم درمان.. السر قدور ما زال معلق الخطى والمزاج في المهرجان والكاشف (وعندي كلمة عايز أقوله فيها من عمري ابتسامة وفيها من عمرك طفولة عايز أقوله). وعندما تأتي سيرة العاقب يبكي وعندما تأتي سيرة الكاشف يصاب بالدهشة وعندما تأتي سيرة الفلاتية (يترجم) ويحكي حكايتها الظريفة في ركن السودان مع المذيعة المصرية.. في هذا اللقاء نرحب بالفنانة التي يقولون عنها في بلادها أنها أم كلثوم السودان) فقاطعتها عائشة موسى في اعتزاز (ليه أصلكم انتو في مصر بتقولوا عنها فلاتية السودان)؟!! فبهتت المذيعة الذكية واضطرت لقطع اللقاء وإعادة المونتاج.. السر قدور وهو يخطو نحو السبعين في حذر الشباب أرجو أن ينتبه الاعلام لتوثيقه وإلا فإننا سنفقد تأريخاً عظيماً من الذكريات الحية لم يسمع بها ولكنه عاشها بدمه وروحه وحبه وذاته المبذولة لصالح الجمال المنثور في الناس والأشياء.. قلتها.. على رؤوس الأشهاد اللهم فاشهد. < أحد الطلاب السودانيين كتب في الخمسينات برقية للسيد عبد الرحمن المهدي وقد انقطعت إعانته متعللاً بالشعر ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد أحداً سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتك التي عودتنا أو لا فأرشدنا إلى من نذهب أعزائي المبتعثين أرجو ألا تكتبوا لزعيم سوداني وسياسي فهؤلاء لا ينفقون ولا يقرأون البرقيات.