جعفر عباس

نضحك أم نبكي؟ (1)


أعرف أن الأستاذ فهمي هويدي كاتب مقروء على نطاق واسع، و90% من مقالاته عن الأوضاع في مصر وتحديدا عن الحركات الإسلامية، وهويدي ليس كاتبا ساخرا، بل هو أقرب إلى التجهم، لأنه يتناول مواضيع لا تحتمل الهذر (الهزار)، وقد التقيت به نحو ثلاث مرات، ووجدته مرحا ومصريا أصيلا لكونه «ابن نكتة»، ولأنني معني بأمور التعليم في بلادنا، لأن التعليم هو أساس التقدم والرقي والتنمية البشرية ومن ثم الاجتماعية والاقتصادية، فقد ظللت محتفظا لمقال كتبه فهمي هويدي قبل سنوات وعنوانه «أهلا بكم في مصر الأخرى»، لأنه مقال ممتع وجاد، فقد كتب كلاما «يفطس من الضحك». تضحك على حال التعليم في مصر ثم تتذكر ان التعليم المصري هو الذي أنجب يوماً ما طه حسين والعقاد وأحمد زويل ونجيب محفوظ ومحمد البرادعي وفاروق الباز وطابورا طويلا من المثقفين ذوي القامات الفارعة الذين حملوا لواء التنوير في الشرق العربي.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فلابد من إزجاء التحية لآخر وزير للتربية والتعليم في عهد حسني شرم الشيخ زوج سوزان ثابت، ففور توليه منصبه قرر وضع حد لمسخرة السخاء السخيف في توزيع الدرجات في امتحان الشهادة الثانوية وقال: لو طالب جاب 85% في الامتحان سأذهب بنفسي إلى بيته لتهنئته، وكان بذلك يريد وضع حد لمواسم العبقرية التي كانت تجعل آلاف الطلاب يحرزون 99% من المجموع الكامل، بل ويحرزون الدرجات الكاملة في مواد مثل اللغتين العربية والانجليزية.
يقول هويدي في مقاله ذاك أنه جلس ذات مرة مستمعا إلى نفر من كبار العاملين في مجال التربية والتعليم الذين تكاد قلوبهم تنفطر حزناً لحال المدارس والطلاب والمدرسين، وقالت له إحدى الموجهات إنها دخلت حجرة دراسة ووجدت مدرسة مسلمة تتكلم في حصة التربية الدينية عن المهاجرين والأنصار، وتقول ان المهاجرين هم من هاجروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، بينما الأنصار هم «النصارى» الذين دخلوا الإسلام لاحقاً.
ومن المعروف ان مصر كانت من أوائل الدول التي حظرت الدروس الخصوصية، ولكن تحت ضغوط من المعلمين قننت وزارة التربية تلك الدروس (ربما من باب الإحساس بالذنب لأن متوسط راتب المدرس يتراوح ما بين 35 و50 دولارا شهرياً حسبما جاء في مقال هويدي)، واستحدثت نظام المجموعات، وهناك مجموعات «عادية» نظير 10 جنيهات شهرياً يدفعها كل طالب، ومجموعات ممتازة نظير نحو 16 جنيها من كل طالب شهرياً، واكتشف هويدي ان المعلمين يسمون استدراج الطلاب للانضمام إلى المجموعات «صيد الحمام» وعندما يسجل الطالب اسمه في مجموعة يقال عنه انه «دخل العش».
لاحظ لغة الصيد وتربية الدواجن، وتقضي توجيهات وزارة التربية بأن تتألف المجموعة من عشرين طالباً، ولكن العدد يرتفع في واقع الأمر إلى 40 وتبقى توجيهات الوزارة على العين والرأس، حيث ان كشوف المدرسة تظهر فقط أسماء عشرين طالباً في كل مجموعة، و«يلهط ويلهف» مدير المدرسة ما يدفعه العشرون غير المسجلين. أما المدير ذو الضمير الذي يتحاشى التزوير/ فإنه يطالب كل مدرس بأن يدفع له مبلغاً شهرياً (أتاوة/ ضريبة) ثابتاً، أما إذا لم تسمح ظروف طارئة لمعلم ما ان ينتظم في التدريس (بسبب عارض صحي أو حمل وولادة بالنسبة للنساء)، فمن حقه أو حقها أن تبيع الحصص التي تخصها/ تخصه لمعلم آخر مقابل أجر شهري محدد.
واكتشف هويدي أن المدرسين الذين يدرسون مواد لا تتيح لهم إعطاء دروس إضافية أو خصوصية (الفنون والرياضة وأمناء المكتبات) يلجأون إلى وسائل أخرى لزيادة مداخيلهم، فنهاك مدرسو الموسيقى الذين يعملون في الكباريهات كعازفين وطبالين، وهناك من يعمل مقرئاً في المقابر، أو حارساً أمنياً ليليا في بناية، وغيره يبيع الحلويات على الرصيف.

jafabbas19@gmail.com