يوسف عبد المنان

هيجتني الذكرى


أثنا عشر عاماً منذ أن افترقنا من غير ميعاد للقاء آخر.. كان الشارع المؤدي إلى موقف مواصلات جاكسون الحالي من جهة الشمال حيث مكتب تنسيق ولاية جونقلي، هو المكان الذي شهد وداعنا.. مضى إلى سبيله عام 2003م وعدت لصحيفة (ألوان) حيث تجمعنا في دوحتها الظليلة أطياف من الأفكار والانتماءات والأشواق والأماني عصية التحقيق.. كان وجهه عابساً.. غاضباً على كل شيء.. يشعر في نفسه بمرارة الفشل والضياع.. وأن المشروع الإسلامي الذي وهبه جزءاً من حياته الطلابية في الجامعة الإسلامية ما عاد يلبي طموحاته ولا يمثله في شيء..
غادر الخرطوم إلى جهة ما.. لأمر ما.. سألت العقيد حينذاك “جابر حسن” بكلية القادة والأركان عن وجهة صديق العمر.. والكفاح.. والجنوب.. والتوجيه المعنوي.. وأيام صيف العبور.. “جابر حسن”، كتم شيئاً من أسرار رحلته، وفيما بعد أصبح “جابر”، وحتى الآن، من كبار قادة التمرد الدارفوري.. بعد كل تلك السنوات وصلتني رسالة صباح أمس تحمل النبأ السعيد جداً بعودة “بشارة الطيب أحمد بوش” ومعه ثلة من ثوار حركة تحرير السودان كما يسمون أنفسهم ومتمردي حركة تحرير السودان كما تطلق عليهم الحكومة.. ساعات والتقينا في جوف الخرطوم، وبين اللقاء واللقاء سيل من الدموع والآهات والذكرى.. وحتى عهد قريب كان اللقاء مع صديق العمر “بشارة الطيب” ميئوساً منه.
وين نلقى دنيا تجمعنا بيك
قلت بتجينا ويا حليل مجيك
إن ضاع عمرنا محسوب علينا
أثنا عشر عاماً من الزمان تبدلت أشياء وتغيرت ملامح الدنيا إلا وجه “بشارة الطيب” وعفويته وشيء من (عجمة) في اللسان وقدرة مدهشة على التعبير والسخرية حتى من النفس.. خرج “بشارة الطيب” تحمله (الغبائن) والمرارات خيل إليه أن (جيفارا) قد يولد من جديد في رمال دارفور وصحاريها القاحلة ووديانها التي ينمو على حوافها نبات الصبار والحراز.. ترك في رحم زوجته نطفة ثم علقة.. ثم جنيناً.. لتضع زوجته الصابرة، في غيابه الطويل طفلة تلهو وتلعب بين الأطفال.. ولا تعرف ملامح والدها.. ولا صوته.. ربما تفرست فقط في الصور التي تحتفظ بها زوجته التي عدّت غيابه ضريبة على الأسرة أن (تدفعها).. عاش أبناء “بشارة” ما بين الخرطوم والفاشر.. ثقتهم كبيرة أن والدهم حتماً سيعود وإن طال الزمن.. و”بشارة الطيب أحمد بوش” يحلم بالثورة والثورية وكان معجباً جداً بقصة المناضلة الفلسطينية “سهيلة السايح” التي شاركت في عملية ميونخ مع الثائر “كارلوس”.. وهو يقرأ أشعار “محمود درويش” عن المقاومة، وغزليات “نزار قباني”.. وفلسطينيات “ليلى خالد”.. حدثته نفسه بأن تجربة “كوامي نكروما” في غانا عبرة لأولي الألباب، وأن حركة تحرير السودان التي ولدت في دارفور هي الحلم والوعد والبشارة قبل أن يدرك حقائق الواقع وتستبين له خيوط الفجر.. والظلام.. والآن ابنته التي تركها نطفة قد تم قبولها في السنة الأولى بالمدارس الثانوية الخاصة!! وابنه “أحمد” الذي تركه يلعب كرة القدم.. حافي القدمين.. قد تخرج في الجامعة وينتظر التعيين.. و”بشارة الطيب” هو قصة كفاح لجيل من الشباب خاض غمار المعارك في دارفور.. وجنوب السودان وجبال النوبة.. وله في كل معركة ذكريات مترعة بالأحزان ولحظات عصيبة ودموع ذرفها لفقدان واحد من جنوده أو ضباطه.. ولا ينسى “بشارة” أن يردد في حكاويه قول “الطيب صالح” في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال): (إن كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا) لكن “بشارة” لا يكذب مطلقاً.. عرفته صادقاً جداً مع نفسه.. وكان متمرداً صادقاً جداً.. والآن عاد صادقاً.. وحينما كنا نسهر الليل تحت أضواء النجيمات، وليل جنوب السودان كان طويلاً وموحشاً ونحن نمد أرجلنا داخل مياه نهر النيل في مدينة بور، كان “بشارة” كثيراً ما يردد كلمات لشاعر مجهول عندي وما أكثر المجهولين في بلادي:
منو العمق جذور العزة جوة الطين
وما هماهو ساعة الرحلة للمجهول
منو السلم صغارو الغول
وكان اتغش لم يتأمل العيش الملأ القندول
مرت ذكريات قريبة وبعيدة.. شريط سينمائي تم استدعاؤه من مخيلتي وأنا في حضرة صديقي “بشارة الطيب أحمد بوش” بقامته الطويلة وجسده النحيل.. لأن “بشارة” من قلب صحراء الزغاوة في شمال دارفور.. وسكان الصحاري لا يعرفون ترهل الجسد ولا البدانة تغشاهم حتى وهم في المدن حيث الحياة السهلة.. والزغاوة قوم ينشأون على الشدة وبأس الصحراء.. وقلة الماء.. ويشربون لبن الإبل.. لذلك أجسادهم نحيلة.. يصبرون على الظروف القاسية.. وهم مقاتلون أشاوس.. و”بشارة” الذي قاتل في شرق جبل مرة.. وفي خزان جديد.. وعين سيرو.. لحظة انقسام حركة تحرير السودان ما بين “مني أركو مناوي” و”عبد الواحد محمد نور”، اختار صف “عبد الواحد محمد نور” رغم أن التيار الذي يقوده “مني أركو مناوي” كان الأقرب إليه من حيث التكوين والنشأة.. وجميع قادة الحركة من أقرانه وأصدقائه.. وأبناء قريته.. أصبح قريباً جداً من “عبد الواحد محمد نور” كقائد يحمل رتبة العميد.. وإذعاناً لتوجيهات الحركة وتحالفاتها ذهب لجبال النوبة.. عاش ثلاث سنوات في طروجي والدار.. وكاودة وأم دولو.. وتبانيا.. يأكل (بليلة الذرة) مع المقاتلين وهو يمثل هيئة قيادة قوات الجبهة الثورية.. ثم انتقل للقتال في دولة جنوب السودان.. وهو لا يعرف لماذا يقاتل إلى صف “سلفا كير” ضد “رياك مشار”، ولا يدرك أسرار تحالف الجبهة الثورية مع فصيل في مواجهة الفصيل الآخر.. وحينما طرح تلك الأسئلة لم يجد إجابات.. تأمل واقع الحرب وحصار السنوات.. والأمنيات والأشواق التي دفعته لحمل السلاح.. وما تحقق خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية والمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية عن المقاتلين.. والتأملات دوماً تقود الأفراد لاتخاذ قرارات تاريخية.. حزم “بشارة الطيب” الإنسان شفيف القلب حقائبه عائداً لعاصمة بلاده.. فالرجل أمضى الاثني عشر عاماً داخل السودان ولم يغادره إلا لفرنسا.. وكمبالا.. وجوبا التي تعدّ الوطن الذي ضاع منا في غفلتنا وسوء تدبيرنا.. عاد “بشارة” بالدموع والفرح.. والأمل.. ولم يتسلل اليأس إلى القلب الشفيف ولم تبد في خلواته الحسرة على أيام مضت.. لكن في هذا البلد الصابر قد شيد له مساكن في قلوب بعض الناس.
جاء “بشارة” بالأمل بعد سنوات الغياب الطويل، وربما يقول كلمته السياسية في مؤتمر صحافي في القريب العاجل من أين جاء ولماذا جاء.. وكيف جاء؟؟ وتلك قصة أخرى لكن “بشارة” الإنسان الصديق الصادق وحينما تقاسمنا السدير نتسامر في اليوم الأخير لشهر شعبان، تذكر “إسحق الحلنقي” وهو يقول:
صحيت جرح إنت مفتكرو اتنسى
وأصبح ظلال
تنساب حزينة مع الغروب
بين السكون والارتحال
جاييني هسه بعد سنين
بعد الفراق العمرو طال
وأنا حالي يغني عن السؤال
شكراً د. “أمين حسن عمر”.. وشكراً اللواء “دخري الزمان عمر”، بعد أن عاد “موسى هلال”، ها هو “بشارة الطيب” يعود.. وعند الأصيل لازم يعود.. وكل جمعة وأنتم بخير.