تحقيقات وتقارير

جبال النوبة بين (الكتمة) و(الفرحة)


الفاشر بعد “عثمان كبر”.. (الفريق أصبح خلا)انفضت جموع المهنئين والمباركين بالتعيينات الأخيرة لولاة الولايات، والخرطوم وحدها لم تحتف بالجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” كما احتفت بقية الولايات وذلك لطبيعة الخرطوم السياسية.. فهي لا تكترث كثيراً لمن يأتي حاكماً عليها.. أو حاكماً فيها.. وقد تبادل حكمها الأطباء والبياطرة.. والإداريون، وعادت الآن لأحضان العسكريين لتستعيد ذكريات الراحل “محمد عثمان محمد سعيد” و”يوسف عبد الفتاح”.. وقد حلت الخرطوم سياسياً في المرتبة الأخيرة في الانتخابات التي جرت هذا الصيف، وتآكل رصيد المؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم وتضاعف في الأرياف والولايات البعيدة مثل كسلا في الشرق وزالنجي في الغرب.. فهل يمثل ذلك تحولاً موجباً أم سالباً؟؟ تلك قضية كان أحرى بالحزب الحاكم توليها بالعناية والحوار داخل أجهزته.. لكن جموع الجماهير التي خرجت في الولايات احتفاءً بقدوم السادة الولاة الجدد قد عبرت بصورة أخرى عن سخطها الشديد على ولاة تمت إقالتهم بقرارات رئاسية.. فالنيل الأبيض التي خرجت من القطينة حتى المرابيع والجزيرة أبا وربك والشواك والكوة لم تخرج لأنها تعرف د. “عبد الحميد كاشا” القادم من ربوع الضعين ولا يجمعها بالرجل سابق معرفة ولا عهد وميثاق، لكنها خرجت تعبيراً عن خيبة أملها في والٍ اختارته بمحض إرادتها وكامل وعيها.. لكنها لم تجد فيه ما كانت تتوق إليه.. والاستقبال البارد الذي قوبل به اللواء “علي حامد” في بورتسودان أيضاً رسالة من الجماهير في البحر الأحمر بأنها لا تزال تنظر للوالي المنتخب السابق “محمد طاهر أيلا” بعين الرجاء والأمل.. وتعدّ أداءه يرقى لطموحاتها، وقد خرجت مدينة الأبيض أيضاً من غير موعد وتعبئة جماهيرية لاستقبال مولانا “أحمد هارون” الذي صنع من رماد مدينة وفشل ولاية نجاحاً وضع الأبيض في مقام يليق بها.
{ من (الكتمة) إلى (الفرحة)
في جبال النوبة أو جنوب كردفان والولاية تحمل (اسمين) شرعيين.. بموجب اتفاقية السلام التي وقعتها الحكومة، اختلف المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في الاسم الحركة طالبت بإقليم والمؤتمر الوطني تمسك بولاية.. والحركة أطلقت على الإقليم اسم جبال النوبة والمؤتمر الوطني أطلق عليه جنوب كردفان، ونجح “علي عثمان محمد طه” في التوفيق بين الرؤيتين بأن ورد في وثيقة الاتفاقية اسم (جنوب كردفان- جبال النوبة) وأصبح كلا الاسمين صحيحاً دستوراً، وقبل أربع سنوات اندلعت الحرب الثانية في الإقليم أو الولاية التي عرفت بحرب (الكتمة).. ومنذ اندلاع تلك الحرب المهلكة ظلت المنطقة في حالة من اليأس والإحباط.. توقفت مشروعات التنمية.. وأغلقت (174) مدرسة أبوابها وتشرد طلابها ما بين لاجئين في دول الجوار ونازحين في المدن الكبرى.. ولا يعرف على وجه الدقة عدد اللاجئين من جبال النوبة في دولة جنوب السودان، وآخر رغم ذكره “علي الزعتري” الموظف الأممي الذي طردته الحكومة العام الماضي بسبب تصريحات نسبت إليه في بعض الصحف النرويجية.. قال “الزعتري” إن عدد اللاجئين من جبال النوبة والنيل الأزرق في دولة جنوب السودان حوالي (940) ألف نسمة.. وتقديرات أخرى تقول إن عدد اللاجئين لا يتعدى الـ(200) ألف نسمة.. لكن تعداد سكان الإقليم نفسه مختلف عليه ما بين مليون وتسعمائة ألف نسمة ومليونين ومائتي ألف نسمة.. وقد خرجت كل مدينة كادوقلي الأسبوع الماضي لاستقبال اللواء د. “عيسى آدم أبكر” الوالي الجديد.. وكادوقلي مدينة تعرضت للقصف المدفعي والصاروخي من جهة أم سردبة والبرام.. خاصة ما قبل الانتخابات الأخيرة، ما أدى لهجرة أعداد كبيرة من السكان القادرين على تحمل نفقات السفر لمدن الأبيض والخرطوم، رغم ذلك خرجت المدينة بأهازيج التراث النوبي ورقصات البقارة يحدوها الأمل في تغيير وتبديل الواقع إلى أفضل.. وصاغ الوالي القادم من عمق أجهزة السلطة ذات الشوكة (جهاز الأمن) خطاباً متوافقاً مع رغبات المواطنين، وذلك بالرهان على السلام من خلال التفاوض وصولاً لاتفاق ينهي الحرب.. ووجدت كلمات الوالي الرضا من الأهالي الذين طالت خيبة أملهم في السياسات الحكومية المركزية التي تعدّ استخدام القوة هو السبيل الوحيد لجعل الحركة الشعبية تذعن للسلام وتضع البندقية على الأرض.. لكن اللواء د. “عيسى آدم أبكر” الذي حينما اسند إليه منصب الوزير في جنوب دارفور عرف كيف يستميل عواطف الجماهير، ويبعثر الصفوف، ويوحد ويؤلف بين قلوب المجموعات التي تعرف بـ(الزرقة) وتلك التي تعرف بـ(العربية) في دارفور التي حاولت جهات عديدة تقسميها إثنياً، لكن د. “عيسى آدم أبكر” المنحدر من قبيلة الفلاتة العربية في محلية تلس استطاع أن يكسب إليه الفور والزغاوة والرزيقات والبني هلبة والتعايشة، لذلك حمله أهل جنوب دارفور على أكتافهم.. ولم تجد الحكومة المركزية من سبيل غير تعيينه في ولاية جنوب كردفانية بدلاً عن ولاية جنوب دارفورية.. ولما كان الرجل يجد السند والدعم من الحكومة المركزية تفتح له الأبواب المغلقة كما يقال، فإن القضايا الجوهرية التي تنتظره صعبة جداً.. وشاقة وعسيرة والذين ينتظرون رحمة السلطة أن تتنزل عليهم بركات وزراء ومعتمدين بعدد الحصى والقيادات التي التفت حوله من وزراء المركز ووزراء الولاية والسابقين المنتظرين أن تمطر عليهم السماء ذهب السلطة ونعيمها، هؤلاء سينفضون من حوله بعد أيام معدودة إن لم يجدوا أنفسهم في مواقع السلطة التي حرموا منها خلال دورات حكم “هارون” أو “الفكي”.. ومن سيئات الإنقاذ أنها صنعت طبقة من السياسيين بلا مواهب أو مؤهلات تعينهم على تصاريف الحياة خارج أسوار السلطة.. إذا خرج أحدهم من منصبه.. انتظر الأيام والليالي أن تهب عليه رياح السلطة من جديد وتحمله حيث العيش الرغد.. والسطوة والصولجان.. لهذه الطبقات أحلامها المشروعة وغير المشروعة ورغائبها، لكن للجماهير العريضة التي جاءت من أطراف المدن المحزونة والقرى التي حرقت والفرقان التي تبعثر شملها والنازحين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، واللاجئين في منافي دولة الجنوب، لهم أحلامهم وأشواقهم أن يعود الوئام ويتحقق السلام بالتفاوض من غير عنف ولا إقصاء.. والرغبة الشعبية العارمة في السلام تتعارض مع التوجهات المركزية التي تراهن على القضاء على التمرد بالقوة العسكرية.. والسياسات المركزية التي تنتهجها الحكومة أن لا شراكة سياسية مع حاملي السلاح ولا ترتيبات أمنية تقضي بإدماج المقاتلين في القوات النظامية.. ولا فترة انتقالية.. الشيء الذي يجعل السلام بعيداً إن لم يكن مستحيلاً.. والحركة الشعبية في الطرف الآخر تمني نفسها بإزاحة السلطة عنوة وإسقاط النظام وأن تصبح هي البديل بمفاهيمها السياسية وعقيدتها الغربية.. وما بين رؤية المركز وأشواق الحركة وتطلعات الجماهير يجد الوالي الجديد نفسه في مأزق حقيقي.. لا تنمية بلا سلام، ولا استقرار بلا وقف نزيف الدم.. ولا سلام دون تفاوض.. وحينما ينظر الجنرال القادم من عمق السلطة إلى أطلال المشروعات التي توقفت ومعها وئدت الأحلام والمال الذي يجب توفيره لإكمال تلك المشروعات، فإن المسؤولية تتعاظم أمام الوالي الجديد.. وحتى هلال كادوقلي الذي كان يبعث الفرح والأمل في النفوس قد بات على حافة السقوط من قطار الممتاز، إلا إذا حدثت معجزة في زمان ما عادت فيه معجزات.
{ “عثمان كبر”.. (الفريق أصبح خلا)
بعد اثني عشر عاماً أو تزيد قليلاً في السلطة غادر “عثمان يوسف كبر” منصب والي شمال دارفور الولاية العصية على الانقياد.. اثني عشر عاماً من الصراعات مع التمرد ومع القوى الغربية والمبعوثين الأجانب.. والموفدين من الدول الكبرى.. و”عثمان كبر” يقاتل في كل الجبهات يصد عن الفاشر كيد المتمردين.. وينافح عن مشروع الإنقاذ بلسان مبين.. ويحشد الجماهير في الطرقات والميادين لنصرة “البشير”.. انتخبته جماهير شمال دارفور قبل خمس سنوات وكان يمكن أن تنتخبه مرة أخرى في أبريل الماضي إن جرت الانتخابات وفق التدابير والدستور والقانون.. و”عثمان كبر” (هرش) “كونداليزا رايس”، ورفض تعالي وزير الخارجية الأمريكي “كولن باول”.. وشيد قصر السلطان “علي دينار” في بيت الحكومة القديمة وصنع الأحداث.. صعد بمريخ الفاشر للدوري الممتاز وتبعه بالهلال.. وأخفق في سوق المواسير.. وفشل في التوافق مع “موسى هلال”.. ولم يفلح في كبح جماح الصراع القبلي بين الزيادية وعشيرته من البرتي.. وتلك كانت هي القشة التي قصمت ظهر سلطته.. وقيل إن الرجل في أخريات أيامه رفع صوته فوق صوت القصر الرئاسي.. ووجد نفسه الآن خارج دائرة السلطة في دارفور، لكنه قال عن نفسه: (سجلت نفسي لاعباً مهاجماً في فريق الخرطوم ولن أذهب مع الوالي “عبد الواحد يوسف” للفاشر ولن أذهب بعده.. أو قبله).. بتلك العبارات حدّد “عثمان كبر” ميدان معركته القادم رغم أن الرجل كان مرشحاً لمنصب نائب رئيس المؤتمر الوطني مع المهندس “إبراهيم محمود حامد” إلا أن نزاعه مع “موسى هلال” وكبار قادة دارفور قد أبعده عن المنصب.. ولكن الرئيس يثق في “كبر” أكثر من بقية قيادات دارفور مما يعزز فرص تسنمه موقعاً رفيعاً في الحزب قادم الأيام والمواعيد.. وبخروج “كبر” من الفاشر وقدوم المهندس “عبد الواحد يوسف” بصمته الشديد وهدوئه تدخل الفاشر عهداً جديداً من الصخب السياسي والتصريحات التي تعيش عليها الصحف والبريق والأضواء لرجل يعمل في صمت شديد.. وبلا كلل أو ملل.. والمهندس “عبد الواحد يوسف” يعدّ من أبناء الإنقاذ المدللين الذين تحملهم على أجنحتها من موقع لآخر كالوردة بين الأزهار.. جاء من جهاز الأمن لمنصب المعتمد في حكومة د. “فيصل حسن إبراهيم” بشمال كردفان.. ثم أصبح وزيراً.. وقيادياً رفيعاً في المؤتمر الوطني.. ووزيراً للداخلية، بسط يديه للجنود.. ونجح في تعديل رواتب صغار منسوبي الشرطة.. ولكنه دخل (حجرة الأفاعي) ونشبت الخلافات بينه وبعض قادة التنظيم، فانتقل إلى وزارة الطرق والجسور.. ولأن الرئيس “البشير” يثق في قدرات “عبد الواحد” أسند إليه منصب أمين الاتصال التنظيمي، والآن أورثه مهمة صعبة أن يأتي بعد “عثمان كبر” وقد (أصبح الفريق خلا).. كيف للمهندس أن يفتح دار السلطة في الفاشر كما كان يفعل “عثمان كبر”؟؟ وهل بمقدوره استقبال ضيوف الولاية بذات الحفاوة والترحاب والكرم الذي هو أصل في دارفور وليس سمة من سمات “عثمان كبر”؟؟ وهل يؤمن بالرياضة وينفق على المريخ والهلال ويسجل لاعباً واحداً مثل “فيصل العجب” بمبلغ (700) ألف جنيه من أجل فرحة الجماهير على حساب مدرسة أساس في قرية (عوين جرو) مسقط رأس الكاتب النحرير “عبد الله آدم خاطر”؟؟ وهل يضع الوالي الشيخ “موسى هلال” في مرتبة المرشد والموجه وحامي السلطة أم ند ومواطن مثل سائر شيوخ العرب وزعماء الفور والزغاوة والبرتي؟؟ أم أن الشيخ “موسى هلال” قائد نظام أهلي فوق الآخرين؟
إن أمام والي شمال دارفور الجديد معضلات كبيرة وتحديات جمة.. ومصاعب وألغام في الطريق.. كيف يعبرها.. وبماذا؟ ذلك ما تجيب عنه الأيام القادمة، وشمال دارفور ظلت من مناطق الظل غير المشمول بمشروعات تنمية حقيقية، خاصة وأن نصف الولاية غير آمن.. وتنتشر في المدن عصابات التوربورا والجنجويد والنهابين وأصحاب المصالح.

 

 

المجهر السياسي