تحقيقات وتقارير

في ذكراها السادسة عشر: مفاصلة الإسلاميين.. ماذا لو كانت مسرحية؟


ستة عشر عاماً مرت على مغادرة شيخهم للبيت الذي شيّده بيديه، ولا ينتابهم شيء غير هاجس التفاصيل المتربص دوماً برواية (المفاصلة)، تلك القصة التي تتشابه سيناريوهاتها مع روايات الفيلسوف التشيكي العظيم ميلان كونديرا، حيث لا يزال الكثير من الناس ينظر إلى قرارات الرابع من رمضان على أنها (مسرحية) صنعها الشيخ حسن الترابي، فالناظر إلى حقيقة ما جرى يومها يجد كثير من المعطيات المنطقية التي تدعم خيار (الحبكة الدرامية)، وهو إفتراض يرجح إحتمالية أن يكون ما حدث فعلاً مسرحية، تضاف إلى رصيد الرجل على المسرح السياسي، وذلك نظراً لحالة الإختناق التي كانت تأخذ بتلابيب النظام يومذاك، والحاجة الماسة لإيجاد عملية تنفس (إصطناعي) من شأنها أن تعمل على ضخ الدماء في شرايين نظام معزول دولياً ومحارب من كافة الجيران، وليس هنالك حل سوى أن يُبعد الترابي نفسه عن المشهد برمته.

أصل الحكاية:
لم يكن الحدث عادياً عندما ظهر الرئيس البشير على التلفزيون بالزى العسكري، وبعبارات قوية وصارمة أنهى فيها أجل المجلس الوطني واضعاً حداً لعلاقة تميزت بالنفور والتقاطعات مع الدكتور حسن الترابي الذى كان يرأس المجلس حينها ، وتبع ذلك بإعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، لمدة ثلاثة أشهر، وتعليق مواد فى الدستور متصلة باختيار الولاة، قاطعاً الطريق على التعديلات الدستورية التي كان يناقشها البرلمان، والخاصة بتغيير انتخاب الولاة، وتحويلها من مجلس الولاية بترشيح من رئيس الجمهورية إلى الناخبين في الولاية بالاضافة الى إعفاء رئيس الجمهورية إذا صوت بذلك ثلثا أعضاء البرلمان، ولقد شكلت تلك الإجراءات إعلانا رسميا للمفاصلة بين الذين اختاروا البقاء في السلطة ودعم الرئيس البشير، والآخرين الذين ارتأوا مساندة الفكرة التي يحملها شيخهم الترابي، في وقت يرى فيه البعض أن جذور الخلاف بين طرفي الحركة الإسلامية، يرجع إلى بداية التسعينات ومبعثها الاختلاف على إدارة دفة الحكم في البلاد بين الرئيس البشير ورئيس البرلمان والأمين العام للمؤتمر الوطني في ذلك الوقت الدكتور الترابي، وهو اختلاف عبر عنه الرئيس عمر البشير بتشبيهه السودان بسفينة تبحر وسط عاصفة هوجاء تحت قيادة قبطانين متنازعين، بيد أن الطرف الآخر اعتبرها خلافا فكريا يتعلق بالحريات والشورى واحترام التنظيم والانصياع للقانون وللدستور، وتفاقم الخلافات بين البشير والترابي ترتبت عليه قرارات الرابع من رمضان.
تلال الشكوك:
تراكمت بعد المفاصلة تلال من الشكوك حول حقيقة الخلافات التي أدت إلى إنقسام الإسلاميين في السودان، فهناك من يرى أن ماحدث في الرابع من رمضان هو مسرحية جديدة خطط لها الترابي بدقة متناهية وعرضها على من هم في رأس الهرم على أن يظل الأمر محصورا على ثلاثة أو أربعة في التظيم ويؤدي الآخرون أدورا في المسرحية دون أن يدرو أنها مسرحية، وهناك بالطبع من يرى أن الخلاف حقيقي ولا جدال حول ذلك، لكن نجاح الترابي في خدعة خصومه منذ الفجر الأول للإنقاذ حينما صدح بمقولته الشهيرة: إذهب إلى القصر (رئيساً) وسوف أذهب للسجن (حبيساً)، جعلهم يشككون في حقيقة المفاصلة التي كان لها أثراً بالغاً في المسرح السياسي السوداني على الأصعدة الأمنية والسياسية والإقتصادية، محليا وإقليميا ودولياً، لما ترتب عليها من نتائج وتحولات كبرى في السياسة الدولية تجاه حكومة الخرطوم التي عرّابها الترابي وحدثت كثير من المتغيّرات على ذات الصُعد، وبإلقاء نظرة فاحصة لنتائج الإنقسام يُلاحظ أن الحكومة وحزبها المؤتمر الوطني حصدا كثير من المكاسب والإيجابيات التي أصبحت وقتها بمثابة رئة تنفس بها النظام المخنوق إقتصاديا وسياسياً بفعل العزلة الدولية المفروضة على الخرطوم.
الخيارات المتاحة:
وفقاً لكثير من المعطيات فإن الشيخ الترابي وجد نفسه أمام خيارين فقط: إما أن يضحي بسمعته ويتحمل عنت السجون وانفضاض كثير من الحواريين من حوله والإبتعاد عن السلطة والهزيمة النفسية للمقربين منه، أو أن يرى إعدام مشروعه (الحضاري) أمام عينيه على أيدي الغرب المتوجس من كل ما هو إسلامي، خاصة وأن الشيخ الترابي أعطى الغرب إنطباعاً مرعباً وفقاً للأستاذ يوسف التاي حينما جمع كل المعارضات الإسلامية، وكل المطلوبين دوليا ممن يُتهمون بالإرهاب تحت سقف المؤتمر الشعبي الإسلامي في مطلع التسعينات، وإلغاء تأشيرة الدخول للسودان وفتح حدوده أمام كل هذه العناصر التي يرتعد الغرب لذكر اسمها أمثال الشيخ أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهما الأمر الذي كان من أهم أسباب إدراج اسم السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب في اكتوبر 1993م، هذه السياسة مع الخطاب الإعلامي المتهور والمتحمس أكثرمما يلزم حملت الغرب وأمريكا إلى خنق السودان والإصرار على إسقاط نظامه عن طريق إحكام العزلة الدولية عليه، فما كان من الشيخ الترابي إلا أن يُبعد نفسه عن المشهد برمته، الفعل الذي أدى إلى مراجعة شاملة لكثير من السياسات التي جلبت (الإختناق) للحكومة، وبدا عرّاب الإنقاذ في الترويج لفكرة أن قرار إبعاده تم بإيعاذ من جهات خارجيه وبدا في وصف خصومة بـ(الخونة ) و(العملاء) لتثبيت الصورة الذهنية لدى الراي العام المحلي والعالمي، هذه الفرضيات وغيرها كرست في أذهان الناس أن المفاصلة التي حدثت بين الإسلاميين في كانت مجرد مسرحية الغرض منها الخروج (الإختناق) الذي تعاني منه الحكومة بسب تواجد الترابي في السلطة.

الخرطوم : أكرم الفرجابي- الوان