حسين خوجلي

وظل العجب سيد النظرات ..!!


قالت القرية إن الأب حين كان صبياً بالخلوة حدثهم الشيخ عن التوكل. وقال في ما قال: إن المرء حين يحسن الظن بخالقه وينتفي عنه خوف العلل يبلغ الكمالات، فتسقط الأسباب وتمتنع حينها الأشياء عن تغيراتها، فتمتنع النار عن الإحراق والماء عن الإغراق.. وتطوي المسافات بلا راحلة وتتأتى الموائد بلا حقول. وحين سمع الصبي ما قاله الشيخ رافقه يوماً للنهر لزيارة حبيب في الضفة الأخرى. وتوقف الشيخ فظنه الصبي قد أخرته بعض الأوراد وما عوَّد نفسه على آدائها قبل كل مسار أو مسير. وحين طال الوقوف قال له دعنا نذهب يا شيخي فقد طال الانتظار، فقال الشيخ متعجباً وكيف المسير ولم تأت المركب بعد، تبسم الصبي وقال وأين التوكل يا شيخنا؟ إنتبه الرجل الكبير ولم ينتظر الفتى فقد قطع النهر بخطوات واثقة كأنه يسير على طريق رصف بالحجارة ومهد بالتراب.. تقابلا على الضفة الأخرى وظل العجب سيد النظرات ولم يتحدث أحد.
قرأ الصبي على شيخه وآخرين القرآن والفقه والسيرة وعلم الرجال والشعر وفقه اللغة والأنساب.
وقال لأهل القرية بعد أن استوى علماً وعمراً وتجارب سأبقى هنا ولا تحسبوا إن طلاوة اللسان وطلاقة الجنان سوف تمنعني عن حقلي ورزقي الحلال. والله لن أبيع علمي أو حجتي لصالح سلطان أو حزب أو جماعة.
وحين سافر كل الناس بقي هو في القرية يعلم الصبيان القرآن والأدب والحكمة. ويفرح حين ينجحون وتتوالى الكرامات، فقد قال الشاهد إن حقله لا يبور ولا يموت له ثمر او نبات. وقد أقسم ألا يبيع لأهل قريته والقرى المجاورة من مزرعته شيئا، فكان كل ما يطلبون بلا مقابل رزقاً من الله.
ومما تحكيه نساء القرية أنه حين مرض زارت النساء والرجال داره. وكان موعد الزيارة حين تعود القرويون تناول وجبة الغداء فاقسم عليهم أن يأكلوا بداره فتعجبوا من الدعوة الملحة وهم يعرفون خواء الخوان. ولكنهم استجابوا لغليظ إيمانه ودعوته الحارة ومن قدر الثريد والمرق ظلت زوجته تطعم الناس وهم يأكلون ويستزيدون الطعام اللذيذ وهي تفيض عليهم وكلما نظروا للقدر وجدوه مليئاً في حالته لم ينقص شيئاً. أسموها العائلة «المبروكة» الأبناء على ذات الطريق والبنات.. جمال وكمال وجلال.
وحين انتبهت القرية للنعمة التي هي فيها وبدأت في تسويقها على الجيران من القرى انتبه الغرباء للبنات الصالحات فتزوجن واحدة بعد الأخرى وتزوج الأبناء واحد بعد الآخر. ورحلت الأم الصالحة وظل الأب الشيخ وحيداً رافضاً الانتقال لكنف بناته أو أولاده باقياً على عهده يغسل ملابسه ويصنع طعامه ويزرع حقله ويصلي بالناس. وقد لحظ أهل القرية عليه بعض التجليات والوضاءة الخاطفة والاستثنائية كلما جاء ذكر المصطفي صلى الله عليه وسلم، وكان كثيراً ما يبكي حتى يُبكي الناس كلما حكى عليهم إحدى قصص المصطفى وهو يحتمل أذى الكافرين. وقد أُغمى عليه يوماً من صلاة العشاء حتى صلاة الصبح حين حكى عليهم أذى الكافرين لسيد الخلق بالطائف.. ومن بعدها لم يره أحد، بيد انه قد ترك وصية أباح فيها حقله لمجموعة الأيتام.. ومنذ عشرين عاماً لم يره أحد .. وقد ظلت قرية المبروكة تردد مجموعة من الحكايات المفرحة والمحزنة عن اختفاء الشيخ الصالح، حيث بحث عنه أبناؤه في كل الاصقاع فلم يجدوا له له سبيلا. وقال الشاهد إن ابنه الأكبر والطبيب الشاب بالحجاز قد لمح يوماً شيخاً كهلاً في الروضة الشريفة يخدم الناس فيه ملمح من أبيه القديم، أمسك به وصافحه وذكَّره أنه ابنه فانكره ولكنه قال إنه لا يعرف شيئاً عن ذلك. ولكنه لا يمانع في أن يؤاخيه في الله. وحين لم يجد عليه حجة كان كلما أتى الحرم لحظه وتمعن فيه إلى أن يُبارح.
وما بين «مبروكة» والأسرة الكريمة التي تفرقت وحكاية الكهل العابد بالحجاز ظل أهلنا ينسجون الحكايات والأقاصيص ويمدون للخيال المدى. ومن يومها أصبح لأبناء القرية وبناتها خيال شفيف. ومن بينهم تخرج الكثير من الشعراء وكتاب القصة والصحافيين، إلا أنهم من غير هذه تميزوا بميزة غريبة كانت هي تلك النظرة المسافرة المهاجرة مع أنفسهم أو مع الناس هي مع من لست أدري؟ هل هي مع العارف أم مع أبنائه النجباء أم مع بناته الرماح لست أدري؟