منى سلمان

في نعمة من الله


كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بقليل، عندما نهض (سفيان) ونفض ثيابه ثم القى بتحية الوداع على (ود النعيم) .. صعد الى مقعد القيادة بسيارته الـ (بيك أب) وادار محركها وانطلق لمقر اقامته بالمعسكر القريب الذي انشأته الشركة المسئولة عن التنفيذ ..
كان (سفيان) الباشمهندس المسئول عن مشروع رصف الطريق الخلوي الرابط بين احد المشاريع الزراعية الجديدة وعاصمة الاقليم، قد تعود على انتزاع نفسه انتزاعا من مجلسه امام راكوبة (ود النعيم)، وحرمان نفسه من انسه وحكاويه المليئة بالموعظة والحكمة، والتي كانت تؤنس عليه طول الليل في ذلك الخلاء الموحش العريض ..
لم يكن قلب (سفيان) وحده من تعلق بمحبة ساكني تلك الراكوبة، فقد تعود كل العاملين في رصف الطريق على المرور بـ (ود النعيم)، والجلوس في حضرة انسه كل ليلة للاستمتاع بـ (شاي لبن الغنم المقنن) الذي يتقن صنعه على نار الحطب التي تضئ الليل وتذهب وحشته، يعاونه في ذلك زوجته العاجبة وابنه الصبي (الهميم) …
عندما جاء العاملون في المشروع الى تلك المنطقة الخلوية الموحشة وجدوا (ود النعيم) يعيش في ذلك المكان وكل اعتماده على لبن غنماته كمصدر رزق يلبى حاجاته واسرته الصغيرة .. يجمع اللبن في تمنة صغيرة ويركب حمارته الهزيلة وينطلق مسيرة بضعة كيلو مترات ليبيعه للنسوة اللاتي يبعن الشاي والطعام للمسافرين .. كان يبيعه لهن بالآجل ولا يتضجر أو يغضب عندما يماطلنه في السداد رغم افواه زوجته وصبيه الصغير المنتظرة اللقمة ودقيق الكسرة التي يجلبهم معه من سوق المدينة .. كل ما كان يشترطه على النسوة مقابل ذلك ان يتعهدن له بـ (الله) على ان لا يخلطن اللبن بالماء ..
كان اللافت للعاملين بالطريق كنز القناعة والرضى الذي يبقي الرجل سعيدا ومرتاح البال فكلما مر به احدهم والقى اليه بالتحية وسأله:
ود النعيم .. كيف حالك ؟
رفع يديه الى السماء وقال في رضا:
في نعمة من الله .. الله يكفينا شر الحساد
يجلس تحت رقراق الشمس على الحصير وقد انشغل برتق اسمال ثوبه الوحيد المهتري بينما زوجته عاكفة على صنع العصيدة في (كنتوش) اسود علاه الهباب بفعل نار الحطب، وابنه قد انطلق ليسرح بالغنمات، ورغم ذلك ما أن يسأل عن حاله حتى يرفع يديه للسماء حامدا لنعمة العافية والستر من عند الله ..
اكتمل رصف الطريق وغادر العاملون معسكرهم في اسف وقد اهمهم ان يتركوا الرجل وقد عاد لوحشته الأولى، بعد ان انتعشت احواله بالدخل الاضافي الذي كان يجيئه من غفارة اليات المشروع والخدمات التي يقدمها للعاملين عليه بالاضافة لـ شاي اللبن الذي لا تكتمل لياليهم بدونه، ولكن كان قد اكتمل العام عندما عاد (سفيان) للمنطقة ومر من امام راكوبة (ود النعيم) في طريقه لمشوار عزاء ..
نزل وبعد السلام والاشواق سأله عن حاله فأكد له (ود النعيم) وهو يرفع ايديه للسماء حامدا انه في نعمة من الله .. وفعلا فقد لاحظ (سفيان) الراحة التي بانت عليه وشيء من بحبوحة العيش تمثلت في تغير حماره الهزيل بـ (مكادي) آخر قوي نشط له بنية حصان، وانشائه لعدة رواكيب واحدة للخدمة وواحدة لاقامتهم وواحدة لاستقبال عابري الطريق الذين تزايد عددهم بفعل رصف الطريق بالاسفلت، وتزايدت الخدمات التي يقدمها لهم .. الشاي والقهوة بالاضافة لاستعانة بعضهم به .. هذا يحضر اليه حمولة من الحطب ليبيعها ويعده بالمحاسبة عندما يعود بعد البيع، واخر يترك عنده رزمة من شوالات الخيش وثالث يأتيه بشوال من الـ(أمباز) حتى توسع المكان وتغير للفضل .. ومرت سنوات تلتها سنوات
وجاء الطريق مرة اخرى بـ (سفيان) لمناسبة زواج قريبة ولكنه كاد ان لا يعرف المكان لولا اهله، فقد امتلأ المكان بالعمّار والعمران واكتظ الطريق بعابري السبيل .. اضاءت الكهرباء ظلمة الليل وتبدد الصمت الموحش بضجيج اصوات الغناء المنبعثة من مسجلات اصحاب الاكشاك الذين ازدحم بهم المكان .. أما رواكيب (ود النعيم) فقد تحولت الى كافتريا حديثة تسر العابرين وحماره المكادي تحول لـ (بوكس دبل كبين) .. وحده الذي لم يتغير رغم تغير احواله كان (ود النعيم) .. سأله (سفيان) عن احواله فعلت وجهه ابتسامة زادت من الضياء الذي بعثه فيه لقاء الاحباب .. رفع يديه للسماء وقال في رضا:
في نعمة من الله .. الله يكفينا شر الحاسدين
مخرج:
انما الغبطة فكرة
مخرج تاني:
الحمدو زادو

(أرشيف الكاتبة)