تحقيقات وتقارير

كجراي.. حكاية شاعر قاتل الاستعمار


(1)
قال أحد الفلاسفة وهو يصف معادن الرجال وأحوالهم فقال (الرجال ثلاثة) وهم: (سابق ولاحق وماحق) فالسابق الذي سبق بفضله، واللاحق الذي لحق بأبيه في شرفه وفضله، والماحق الذي سحق شرف آبائه وأجداده، ولكن إذا دار محور سؤالنا عن نجمنا لهذا اليوم، فهو أيضا سابق ولاحق وماحق، كما قال الفيلسوف إلا في الأخيرة في قوله لأنه أيضا ماحق ولكن فقط لأعدائه وللمستعمر البغيض كما وضح ذلك جليا في روائعه وأعماله وهو شاعرنا الكبير محمد عثمان محمد صالح كجراي.
(2)
ولد محمد عثمان محمد صالح كجراي بمدينة القضارف في عام 1928م ونشأ في بيئة دينية صوفية فكان والده قاضيا شرعيا بالقضارف وله خلوة لتحفيظ القرآن وعلومه فدخلها كجراي في سن مبكرة وعمره ثلاث سنوات مما ساعد في حفظه للقرآن في مرحلة سنية مبكرة ثم سافر إلى أمدرمان ليواصل تعليمه بالمعهد الديني هناك، ولكن كجراي رغم تفوقه ونبوغه الباهر قطع تعليمه ورجع إلى القضارف حتى يساعد والده في تربية إخوانه وتوفير حاجيات أسرته، فاضطر أن يفتح متجراً بقرية (مهلة) جوار القضارف إلا أن المستعمر الإنجليزي أباد قرية (مهلة)، وأحرقها بأكملها وذلك بسبب اعتقادهم بأنها كانت منفذاً لدخول وخروج السلاح الذي شكل خطورة كبرى على الحكومة البريطانية آنذاك، واحترق متجر كجراي من وضمن الأشياء التي احترقت ونهبت وذلك في عام 1948م، فازداد كره كجراي للمستعمر ولسياساته الجائرة وانعكس ذلك جليا في أعماله وأشعاره الكبيرة التي كان يناهض المستعمر فيها ويشجبه ويدينه بمقاومة أدبية وفكرية، والحرية تمثل مرتكزا أساسيا في أعمال كجراي، خصوصا عندما قال: (أغلى ما أملكُ يا قلبي مهر لعيون الحرية لبلادي في درب الأحرار تدك جدار الفاشية ما عاد كفاحُك يا وطني صفحات نضال منسية).
(3)
حدث وأن تم اعتقال كجراي من قبل المفتش الإنجليزي بعد أن ترجموا له إحدى قصائده فناداه وقال له: “ما اسمك؟”، فقال بكل ثقة وصلابة: “اسمي كجراي”، ولكن في الحقيقة هو اسمه محمد عثمان محمد صالح، ولكن كجراي برطانة البجا تعني المقاتل أو المحارب فصار اسم كجراي عليه منذ تلك اللحظة. بعد ذلك اضطر كجراي أن يقدم خطابا للمفتش الإنجليزي ليعمل مدرساً وتم قبول طلبه فسافر إلى بخت الرضا لتأهيل المعلمين ثم شندي ورجع فعمل مدرساً بالمدارس الوسطى والثانوية. ولأن كجراي كان ينبذ الحرب والظلم رغم أنه كان محاربا بالسيف والقلم بصورة رائعة لكن كان ينصح أحباءه وأصدقاءه الأريتريين الذين يحفظ لهم ودا وحبا كبيرين قائلا: (يا رفاق الأمنيات الخالدة قد رضعنا ثدي أم واحدة.. لم تمشون على درب الهوى في مياه النعرات الراكدة.. عنصريات الدجى نرفضها في نضالات الكفاح الرائدة).
(4)
وكجراي مدرسة متفردة في فنون الشعر الحديث فقد جمع وبكل جودة واتقان كتابة شعر التفعيلة وكان رائدا من رواد الشعر الحر، ووضح ذلك جليا عندما قال: (حدثتني المواويل أنك امرأة تعشق الليل حين تنام الرياح… فتغسل أوهامها فوق موج الصبابة… ولعينيك مجدٌ تعشقتهُ)، وقال أيضا في حق أحبائه الأريتريين: (من أجل العـزة يا شـعبي تلد الأبطالَ أرترية أبطالك في ساحات البذل عواصف نار رعدية).
(5)
ساهم كجراي بصورة واضحة وجلية في وضع منهج اللغة العربية في أريتريا كما كان من مؤسسي مؤتمر البجا في ستينيات القرن الماضي،
ونشرت لكجراي قصائد منذ أمد طويل وبعيد في عدد من الإصدارات المحلية والعربية منها باكورة أعماله بصحيفة السودان الجديد عام 1948م بجانب قصائد أخرى كقصيدة (السأم والأحلام الميتة) بمجلة الرائد الكويتية ومهر الحرية بإثيوبيا وعدد من الأشعار بمجلة العربي الكويتية.
كما كان كجراي عضوا باتحاد الأدباء السوداني وعضو رابطة أدباء كسلا والسكرتير العام لمجموعة (أولوس) الأدبية، ولكجراي عدد من الدواوين الشعرية منها (الصمت والرماد) و(في مرايا الحقول) و(الليل في غابة النيون) و(أنفاس البنفسج)، فقد تكفلت دولة قطر في عهد الوزير السموأل خلف الله بطباعة ديوانه (في مرايا الحقول)، وكما أسلفنا فإن كجراي يعتبر مدرسة شاعرية متفردة يجيد السباحة في كل بحور الشعر وضروبه ونجده أيضا في الشعر الغنائي مع العملاق وردي في عدد من الأغنيات مثل (مافي داعي وتاجوج وبسمة الزنبق) أما مع ابراهيم حسين فهنالك درر من روائع الغناء السوداني (قالوا الزمن دوار يا بسمة النوار) و(فريع ياسمين) و(يخاصم يوم ويرجع يوم ويعذبنا بيريدو)، ألا رحم الله أستاذنا كجراي بقدر ما قدم لأهله وبلاده فقد حدثت وفاته في يوم 13 / أغسطس 2003م بعد حياة عامرة بالبذل والعطاء والتضحيات.

 

 

السوداني


تعليق واحد