داليا الياس

منظراتية


{ نحن شعب بارع في جميع فنون التنظير! ندّعي الإلمام بتفاصيل كل الأمور مهما تباينت واختلفت، نتبنى القضايا والمواقف، ونتصدى لما يعنينا وما لا يعنينا، والمحصلة الأخيرة دائماً – رغم ذلك – صفر.
{ لاحظوا معي براعتنا في التحليل السياسي المحلي والعالمي، وإرهاصات وتوقُّعات الأحداث، ومع ذلك لازلنا نجهل ما لنا وما علينا في الدستور والقانون، كما يجهل العديد من المسؤولين الكيفية الحقيقية لممارسة السياسة كما يجب لمصلحة البلاد والعباد، فهم لا يُتقنون منها إلا ذلك الجانب الذي يُحقق مصالحهم الشخصية فحسب!
{ أما في ما يتعلق بالرياضة – لا سيما كرة القدم – فنحن أبرع الشعوب في وضع الخُطط وانتقاد الحكام والمدربين والإشارة لما كان يجب عليهم القيام به، ونحن من أكثر الشعوب تعصباً وحماساً في التشجيع والانتماء الرياضي والحرص على المتابعة والوجود الدائم في كل منافسات الفريق، وربما نكون أكثر الشعوب إصداراً للصحف الرياضية المتخصصة وذات اللون الرياضي المعيَّن، ورغم ذلك نأتي دائماً في ذيْل جميع المنافسات ونحمل خيباتنا الرياضية المتلاحقة فوق رؤوسنا دون أن نبرع في ممارسة الفرح الرياضي كما ينبغي لنا والذي لم نعرفه إلماماً وربما بصورة أجمل إلا على يد العدّاء الرياضي (كاكي) مؤخراً أو الفتى الأسمر (نايل) وغيرهما ممن لم يسلموا من تنظيراتنا!!
{ ورغم كل الإخفاقات في حياتنا التي نحمد الله عليها على أمل أن تتغير يوماً، لازلنا نمارس التنظير والسفسطة والفلسفة والتشدُّق بادعاء المعرفة والخبرة والدراية، وننتظر أن يُغيِّر الله ما بنا دون أن نجتهد في تغيير أنفسنا، وللعلم فإن البراعة والمهارة والتفوق دائماً مرتبطان بالصمت والهدوء، وإليكم الصين العظمى كدليل، فهي الآن سيدة السوق العالمي وسيدة الموقف، وشعبها أعظم شعوب العالم لأنهم التزموا دائماً سياسة الصمت والعمل في هدوء. أما نحن فندعي ونجادل ونحاضر في استرخاء تام. حتى أمورنا الشخصية وقضايانا الاجتماعية نقتلها بالتنظير دون أن نجد حلاً ناجعاً لها، وها هي العنوسة قد بلغت حداً بعيداً، ويعاني مجتمعنا من مستجدات عجيبة ومخيفة، أصبحنا نعرف الاغتصاب، والقتل العمد، والسرقة وضح النهار، والنصب والاحتيال باسم الدين. وفقدنا الثقة في كل شيء ولايزال بعضنا يُكابر، ويبذل الأحاديث الطويلة ليقنعنا ويقنع نفسه بأننا لازلنا الأفضل والأجمل والأكمل والأنبل بين الشعوب، كأنه نعامة تدفن رأسها في الرمال!
{حتى الابتلاءات والأمراض لم تنج من ذلك التنظير الأجوف، فما أن نسمع بمريض حتى نهرع إليه بدعوى المواساة والتخفيف ثم سرعان ما نبدأ الحديث عن مرضه حديث العارفين، ضاربين الأمثال وباذلين النصح ومقترحين سُبُل العلاج، وربما نسوق بعض النماذج والحكايات لأبطال مشابهين لهم تجارب مع ذلك المرض معظمها انتهى أصحابها إلى رحمة مولاهم، وبذلك نُدخل الفزع إلى قلب المريض المسكين فتنهار معنوياته تماماً بفعل زيارتنا (الميمونة) تلك دون أن نخشى فيه الله أو نتبع أبسط قواعد الذوق والإنسانية واللباقة.
{ وبهذا، تجدنا نُقحم أنفسنا في خلافات الأهل والجيران، و(نحشر أنوفنا) في شؤون الغير دون أن نقف لنتساءل هل هم على استعداد لتقبُّل نظرياتنا تلك والعمل بها؟ أو هل هذه النظريات التي نقدمها مجاناً مجدية ومجرَّبة ومضمونة؟ والأهم من ذلك هل نحن فعلاً مؤهلون لتقديم تلك النصائح والمحاضرات المملة في أمور غالباً ما نكون نحن أول ضحاياها الذين يقفون عاجزين عن إيجاد حلول ناجعة وواقعية بعيداً عن التنظير؟!
{ تلويح:
البراميل الفارغة، تُصدر ضجيجاً.