الطيب مصطفى

في فقه الولاء والبراء


ويمضي د.عصام البشير في تتبع بعض القضايا الفقهية منحازاً إلى المدرسة الوسطية وداحضاً منطق الفقه المتطرف، ويتحدث عن فقه الولاء والبراء، ويقول حول الموضوع ما يلي:
مفهوم الولاء مركّب من عنصرين، حب ونصرة. الحب أو المحبة عمل قلبي، فالعمل القلبي معناه أن لا تحب حباً بناءً على العقيدة الإيمانية إلا لله عز وجل، وهذه واضحة. وأما النصرة فعمل ميداني وفعلي وتنفيذي وتطبيقي، وقد يقع بأن تتحالف مع غير المسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحبُّ أن لي به حُمر النّعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت” وكان حلفاً أقامه عمه الزبير (بن عبد المطلب) وآخرون من أشراف مكة وأعيانها، وكان قائماً على نصرة المظلوم وردع الظالم.
وقال صلى الله عليه وسلم: “لا حلف في الإسلام”، أي لا حلف على ما كان عليه أهل الجاهلية، لأنه أيضاً صلى الله عليه وسلم قال: “وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة”، لكن حديث “لا حلف في الإسلام” مُنْصبٌّ على النهي أو النفي للحلف القائم على قواعد الجاهلية بأن تنصر الإنسان الظالم لو كان من ذوي قرابتك، ولكن الحلف القائم على التعاون في البر والتقوى وما كان في الإسلام لم يزده إلا شدّة ووثوقاً وتأكيداً.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بينه وبين قبيلة خزاعة حلف، ولما اعتدت قبيلة بكر على خزاعة كان ذلك مسوّغاً لفتح مكة انتصاراً لهذا الحليف، والقرآن يقول: ” وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” (سورة الأنفال، الآية: 72). بمعنى أن قاعدة النصرة والتحالف تحكمها قاعدة المصالح الشرعية والسياسة الشرعية، وقد تستعين بغير المسلم ابتغاء مصلحة معينة إذا أمنت جانبه واحتطت لنفسك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته.
إذن فالجانب الميداني له أصول كثيرة في فقه الشريعة، والله تعالى يقول في شأن المشركين: ” فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ” (سورة التوبة، الآية: 4)، وأيضاً: ” فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ” (سورة التوبة، الآية: 7).
أما الحب القلبي المبني على العقيدة والإيمان فلا يكون إلا للمؤمن، لكن يمكن أن يكون حباً ليست دوافعه إيمانية، كزمالة في الدراسة وجوار في المسكن، وشراكة في العمل يترتب عليها صداقة، الغُلو في هذا أن إخواننا هؤلاء لا يأخذون النصوص بمجموعها، مثلاً لو قلت إن مطلق الموالاة لغير المسلم لا تجوز فحينها تقع في إشكالية.
فإن الله تعالى شرع للمسلم أن يتزوَّج الكتابية، والزواج مبني على السكن والمودة والرحمة، فالله تعالى يقول: “وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة” (سورة الروم، الآية: 21)، فهل يتزوج الإنسان امرأة ولا يكون محباً لها؟ هل يستقبلها كل صباح مقطّب الجبين محمر العينين منتفخ الأوداج لا ينظر إليها إلا شزرا؟.. إنه يولد له منها أبناء، هؤلاء الأبناء لهم أخوال كتابيون، وهذه الصلة ينعقد عليها الرحم والمصاهرة والنسب، إذن نتحدث عن أسباب أخرى تنعقد للمحبة، والدليل على ذلك القرآن يقول في شأن الصحابة: ” هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ” (سورة آل عمران، الآية: 119)، أي تحبون غير المسلمين وتحبون هدايتهم وتحبونهم لجوانب أخرى وهم لا يحبونكم، فأثبت حباً لكنه غير مبني على قاعدة العقيدة والإيمان.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب عمه أبا طالب لأنه نصره، وكان يحب هدايته لآخر لحظة من لحظات الموت، ولذلك قال الله تعالى: ” إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ” (سورة القصص، الآية: 56) فأثبت المحبة، إذن يمكن أن تكون هنالك بواعث للمحبة لكن بغير باعث العقيدة والإيمان الذي لا يكون إلا للمؤمن، وهذا هو الغلو في مفهوم المصطلح، وبالتالي في الدولة يوجد مبدأ التعاون على البر والتقوى حتى وإن صدر من كافر لا تحبه ولكن يمكن أن تتعاون معه، والدليل على ذلك قوله تعالى: ” وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ” (سورة المائدة، الآية: 2).
أفضل ما قيل في تفسي هذه الآية: لا يحملنكم بغضكم لقوم صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، ولا يحملنكم هذا البغض على العدوان إن لم تقم له دواع، وتعاونوا على البر والتقوى، أي هؤلاء الذين عادوكم وصدوكم عن المسجد الحرام إذا دعوا إلى أمر فيه بر وإحسان، أو فيه عمل بميزان الشريعة يعتبر عملا مقبولا فيه نفع للناس في دينهم أو دنياهم فيجوز أن تتعاونوا، وهذا دليل واضح من القرآن الكريم ومن السيرة النبوية على هذه السعة. ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة الأولى ندبهم إلى أن يذهبوا إلى ملك قال: “لا يظلم عنده أحد”، وهو النجاشي.
وحين ذُكر لعمرو بن العاص قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس” (حديث الروم)، قال عمرو للراوي: إن فيهم لخصالاً أربعاً: “إنهم لأحلم الناس عند فتنة”، أي حين تقوم الفتنة التي تجعل الحليم حيراناً عندهم حلم، “وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة”، وكثير من الناس تهزمهم الصدمة الأولى، وهؤلاء عندهم الإفاقة والعودة إلى الرشد والصواب والتحكم في العقل، “وأوشكهم كرة بعد فرة”، وما دامت الحرب كر وفر فهم دائماً يملكون زمام المبادرة، وهزيمتهم لا تؤدي إلى هزيمة نفسية بل يرتبون صفوفهم ثم يبادئون العدو مرة أخرى، “وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف”، وهذه قيم دينية وأخلاقية، وأخيراً قال: “وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك”.