حسين خوجلي

أنا في شمال الحب قلبي خافق


(1)
ومن الحكايات العجيبة في سيرة هارون الرشيد والزمان العباسي ما رواه صاحب الثمرات حيث قال الشاهد:
يُحكى أن هرون الرشيد حجّ ماشياً، وأن سبب ذلك، أن أخاه موسى الهادي كانت له جارية تسمى غادر، وكانت أحظى الناس عنده، وكانت من أحسن النساء وجهاً وغناء، فغنت يوماً وهو مع جلسائه على المغنى إذ عرض له سهو وفكر وتغير لونه وقطع طعامه وشرابه، فقال الجلساء: ما شأنك يا أمير المؤمنين؟ قال: قد وقع في قلبي أن جاريتي غادر يتزوجها أخي هرون بعدي. فقالوا: يطيل الله بقاء أمير المؤمنين وكلنا فداؤه.. فقال: ما يزيل هذا ما في نفسي، وأمر باحضار هرون وعرفه ما خطر بباله، فاستعطفه وتكلم بما ينبغي أن يتكلم به في تطبيب نفسه فلم يقتنع بذلك، وقال لابد أن تحلف لي، قال: أفعل وحلف له بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق وعتاق وحج وصدقة وأشياء مؤكدة، فسكن ثم قام فدخل على الجارية فأحلفها بمثل ذلك، ولم يلبث إلا شهراً ثم مات فلما أفضت الخلافة إلى هرون، أرسل إلى الجارية يخطبها، فقالت: يا سيدي كيف بايمانك وايماني؟ فقال: أحلف بكل شئ حلفت به من الصدقة والعتق وغيرهما إلا تزوجتك، فتزوجها وحج ماشياً ليمينه، وشغف بها أكثر من أخيه حتى كانت تنام فيضجع رأسها في حجره ولا يتحرك حتى تنتبه. فبينما هى ذات ليلة نائمة إذ انتبهت فزعة، فقال لها: مالك؟ قالت: رأيت أخاك في المنام الساعة وهو يقول:
أخلفت وعدك بعدما
جاورت سكان المقابر
ونسيتني وحنثت في
ايمانك الكذب الفواجر
فظللت في أهل البلاد
وعدت في الحور الغرائر
ونكحت غادرة أخي
صدق الذي سماك غادر
لا يهنك الالف الجديد
ولا تدر عنك الدوائر
ولحقت بي قبل الصباح
وصرت حيث غدوت صائر
والله يا أمير المؤمنين فكأنها مكتوبة في قلبي ما نسيت منها كلمة. فقال الرشيد: هذه أضغاث أحلام، فقالت: كلا والله، ما أملك نفسي، وما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة.
(2)
{ كنت دائماً أغري أصدقائي الاطباء ان يكتبوا الشعر روشتة واحدة بعد مئات الروشتات والوصفات المدفوعة الاجر، فأشعار الاطباء فيها كياسة ودواء وداء غير قاتل من الوجع والحنين.. ففي السودان أنيس والزين عباس عمارة والشاعر الضخم الطبيب حسين يعقوب ابراهيم في الفصيح والعشرات في العامية الودودة .. وفي مصر كان ناجي ولا أعلم غيره.. أنظروا له كيف رسم هذه البطاقة لأي حبيبة تستحق الرجاء والانتظار والقرب:
اين من عيني حبيب ساحر فيه نبل وجلال وحياء
واثق الخطوة يمشي ملكاً ظالم الحسن شهم الكبرياء
عبق السحر كأنفاس الربى ساهم الطرف كأحلام المساء
مشرق الطلعة في منطقه لغة النور وتعبير السماء
{ العجيب ان الشعراء كانوا يبكون بأسى اوطانهم حتى ماتت اللغة وماتت مواهب التعبير عنها وعن انفسهم فما عاد الوطن يبكي ولا الشاعر الا بدمعات جامدات ينزلن على الخدود العجاف كقطع الحجارة .. وفي قمة سطوة الاستعمار وحصار القراصنة الاوروبيين وبكل ما فعلوه في المغرب العربي كان الشابي يبكي ألمه وشكواه وذبول شباب وهو يتلاشى ليلة .. ليلة مع أنه كان في أول العشرين من ربيع عمره الأقل مثله مثل التجاني والهمشري .. أرأيتم كيف صارت الأبيات دموعاً وتشاؤماً وقنوطاً وحسرات؟
فأين الأماني وألحانها؟ وأين الكؤوس؟ وأين الشراب؟
لقد سحقتها أكف الظلام وقد رشفتها شفاه السراب
فما لعيش في حومة يأسها شريد وصداحها لا يجاب
كئيب وحيد بآلامه وأحلامه شدوه الانتحاب
ذوت في الربيع أزاهيرها فنمن وقد مصهن التراب
لوين النحور على ذلة ومتن واحلامهن العذاب
فحال الجمال وتماضى العبير وأذوى الردى سحرهن العجاب
{ ومن الذين نافسوا ناجي ولم يبلغوا شأوه من شعراء مصر وأطبائها أبو شادي الذي مزج الكيمياء بالطب فظل حبيس المهاجر الشاتية في بريطانيا وأمريكا.
وهو من أصدقاء ناجي والمهندس ومحرم وحادي ركبهم في مجلة أبولو التي تسمّوا بها ونال حظه من تقريع العقاد وتلميذه سيد قطب ولكن لم يبال فظل ناقداً وشاعراً وفيلسوفاً ونطاسياً ناجحاً وكان جيلنا يحفظ له:
هذي حياتي كلها تعب على تعب واتراح على اتراح
أبكي وأضحك غير أني لا أرى الا الضحوك بنشوة الملاح
كأنني جاوزت خلجان الردى بسفينتي فنعمت بالاقداح
والدهر يعلم انني في نشوتي في قبضة الجراح والسفاح
لم ادر ان كان الشقاء او الردى بيديه وان المنية راح
ألهو وأدأب مازحاً ومجاهداً في ثورة السبّاق والسياح
واليم يطبق شاطئيه عليّ في مرحي وتلك نهاية الممراح
(3)
{ عندما أوقف الأتراك صحيفة البرق للأخطل الصغير أوقفوا كلماته ولكنهم اطلقوا سراح شعره .. والشعر مثل النسيم لا يستطيع أحد أن يعتقله .. فأسمعه في حدائه التعويضي الرصين:
أنا في شمال الحب قلب خافق
وعلى يمين الحق طير شاد
غنيت للشرق الجريح وفي يدي
ما في سماء الشرق من أمجاد
فمزجت دمعته الحنون بدمعتي
ونقشت مثل جراحه بفؤادي!!
(4)
{ وفي هذا المقام للشاعر دفع الله الحاج يوسف المحامي آهة وتباريح وردود وترجيع..
{ وهل يحلو مجمع للشعر والشعراء غير أن يقرأ في خواتيمه الجواهري ويشدو للجهاد والمجاهدين والثورة والثوار دلالاً في ميادين الجهاد وتيهاً بالجراح وبالضماد
ورشفاً بالثغور من المواضي وأخذاً بالعناق الى الجهاد
وإقداماً وان سرت السواري بما يشجى وان غدت الغوادي
وبذلاً للنفيس من الضحايا فأنفس منهم شرف البلاد
ويا جثثاً يفوح المجد منها فيعبق في الجبال وفي الوهاد
سقتك الصائبات من التحايا معطرة فما صوب العهاد
أعز الناس في أغلى ممات وخير الزرع في خير الحصاد
{ ورغم أنف الفصيح فإنني مضطر لترديد تعريف عكير الدامر للشعر حين سألته عن تعريف فقال:
الشعر أصلو كلمات في القلب تتلمه
ننضما زي عقد ومتل العقد تنضما
وعند الحوبة زي بلح إستوى واترمى
تصبح بكرة طيب والفيهو طيب بنشما
{ بالمناسبة عكير دا هدندوي وأصلها أوكير «لكن بالله شوفوا الادروب دا القدر عليها».. ألم يلتهم كل ما رماه هؤلاء من عصى وثعابين تسعى؟!!


تعليق واحد

  1. عمة 10 امتار و عباية و ملفحة و عصاية و نضارة الخمخمة دي كلها في شنو. العمة اللبسوها اجدادك كانت كفن حقيقي دلالة علي زهدهم في الدنيا جاهزيتهم للرحيل. انت عملت العكس تماما.

    بعدين عيب و قمة البلادة ان تملك قناة تلفزيون و عامل فيها ابو العروبة و تجي تنطق اعرابي بكسر الالف. ساقط عربي