مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : صغار العصافير


نزاعات كثيرة شهدها السودان على مدى تاريخه الحديث، ولم يتم إيلاء الأطفال خلالها الاهتمام المطلوب إلّا بالقدر الذي يثيره الناشطون في المنظمات الدولية. بل على العكس فإن لم يكن الأطفال من ضمن ضحايا الحروب فإنه يتم استخدامهم كوقود لهذه النزاعات، إما باتهام إحدى الفئتين المتقاتلتين بتجنيدهم والإساءة إليهم أو الاتهام بمحاولات تنصيرهم مثلما حدث مع حواء جنقو الناشطة الحقوقية والفائزة بجائزة أشجع نساء العالم ضمن عشر أخريات، حيث اتهمت بعدة تهم من ضمنها تنصير أطفال دارفور.

اليوم وقبل أن تندمل جروح شباب عاشوا في مناطق النزاعات وشهدوا العديد من المعارك حينما كانوا صغاراً، ينفتح جحيم آخر في أغلب مناطق السودان والتي استحالت إلى مهمشين إضافة إلى مهمشي دارفور ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق. لا أحد يدري كم عدد الضحايا من الأطفال الذين يخجلوننا عند المآسي كما صورتهم الراحلة ليلى المغربي في قصيدتها الملحمية “طفل العالم الثالث”: «أطفلاً بتُّ أم كهلاً، فعمري شُقّ من عمر المقاساة ومأساتي”.

يتحدث الاختصاصيون النفسيون عن تأثير مشاهد صور الحرب والقتلى والجرحى المؤلمة والتي أصبحت جزءاً من المشاهد اليومية في نشرات الأخبار والتي تنقل أحداث النزاعات والحروب في بؤر العالم المشتعلة أفظعها على الصعيد العربي حروب سوريا واليمن والصراع في العراق. هذا التأثير هو من جراء تكريس ثقافة العنف في التلفزيون والصحف، فما تعرضه القنوات الفضائية من مشاهد الذبح والقتل والضرب والترهيب وصراخ الجرحى، مشاهد لا يحتملها صاحب أغلظ قلب ويستنكرها كل صاحب فطرة سليمة، ولكن للأسف الكل مضطر لمتابعتها والأسف الأكبر أنها أحداث حقيقية، لا تستثني حتى الأطفال الذين هم ضحاياها في الواقع، فضلاً عن الضحايا من صغار المشاهدين.

أطفال السودان ومناطق النزاعات بالذات كبروا مع هموم الوطن، فمنذ نعومة أظفارهم وهم يكابدون حالات العوز والجوع والمرض والجهل. بالأمس كانت وما زالت دارفور وقبلها كان الجنوب واليوم بؤرة أخرى في الجنوب الجديد وهذه مما استطاع الإعلام تسليط الضوء عليه بحكم الضرورة. ويجب ألا ننسى أنّ هناك أطفالاً منسيين في مناطق أخرى يعانون مثلما يعاني أطفال مناطق النزاع.

ومن لم يؤذَ في ميدان القتال وفي الغارات على المنازل الآمنة يؤذى بغيرها. سننتظر بعد انجلاء أحداث هجليج حالات كثيرة من الصدمات النفسية والسلوك غير السوي وحالات من الفزع واضطرابات الكرب واضطرابات النوم والقلق والاكتئاب التي ربما تلازم هؤلاء الأطفال زمناً طويلاً، وقد تستمر معهم مدى الحياة. وهناك تجارب واقعية مسجلة في يوميات الشرطة وعلى صفحات الصحف يمكن من خلالها ملاحظة ازدياد عدد جرائم الأحداث في المناطق الطرفية التي تقطن بها جماعات النازحين من مناطق الحروب.

كل ما نأمله هو أن يكون هناك التزام أخلاقي وإنساني في كل الدول التي تعاني من النزاعات باتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية الأطفال، والعمل بالقانون الدولي لحقوق الإنسان الذي جاءت نصوصه مكرّسة الحماية الكبرى للنساء والأطفال خاصة في مناطق الحروب والنزاعات. والالتزام بالاتفاقيات الإقليمية مثل ميثاق حقوق الطفل العربي والأفريقي والسوداني. وغنيٌّ عن القول إنّ هذه القوانين تمت صياغتها لحماية الطفل لعدم مقدرته على حماية نفسه واستوجبت أن يقوم المجتمع ومؤسساته الرسمية والشعبية بهذا الدور لضمان مستقبل أفضل للمجتمع ككل.

وإذا كان التحذير من آثار المشاهدة فقط لصور القتل والتعذيب يستوجب اهتماماً كبيراً من الأهل لتوفير الرعاية النفسية لأطفالهم، فإنّ وجود الأطفال في مناطق النزاع ومشاهدتهم الحية لصنوفها غير أذاهم الجسدي والنفسي يجعلهم ملامسين لواقع مرير يصعب التنبوء بما قد تصير إليه حالتهم بعدها.

هذا ليس بوق آخر لتنفتح سيرة عدالة دولية أخرى، وإنّما كل ما نرجوه هو عدالة إنسانية ترى بعين العاطفة والعقل والواجب مصير أطفال حمّلتهم أوطانهم فوق ما يحتملون، وراكمت حطاماً إثر حطام على قلوبهم الندية وها هم ينادون مع محمود درويش:

هرمتُ، فرُدّي نجومَ الطفولة

حتى أُشاركْ

صغارَ العصافيرِ

دربَ الرجوعِ لعشِّ انتظارك