د. ياسر محجوب الحسين

الخرطوم تغرق في شبر “داعش”


(1)
عُدت موضوعات تفرض نفسها فرضاً على من يريد الكتابة في الشأن السوداني دون أن يجد منها انفكاكا بيد أن الرابط الوثيق بينها جميعها، حالة الفشل المستعصية التي تضرب بجذورها في المشهد السياسي.. اليوم لم يعد يشغل أولياء أمور طلاب الجامعات السودانية تدبير تكاليف دراستهم ولا حتى تصاعد العنف السياسي بين الطلاب؛ بل إن خطبا جللا أصاب أولياء الأمور وهو تسرب الطلاب وبشكل ممنهج على ما يبدو إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سوريا والعراق.. بل إن ابنة مسؤول سوداني كبير خرجت بجوازها الدبلوماسي عبر مطار الخرطوم وأعلنت وزارة الخارجية عن شروعها في إجراء تحقيق حول كيفية مغادرة حاملة الجواز الدبلوماسي البلاد والانضمام إلى “داعش”.. المسؤول وهو الناطق الرسمي لوزارة الخارجية اتهم في غمرة انفعاله والتياعه، جهات رسمية بتسهيل عمليات الهروب نظير مقابل مادي، الأمر الذي يؤكد استشراء الفساد الحكومي.. وزير الداخلية لم يحرك فيه الأمر الجلل ساكنا، بالطبع لم يقدم استقالته اعترافا بمسؤوليته المباشرة عن الفجوة الأمنية في مطار الخرطوم.. الثغرة الأمنية في منفذ بحجم المطار الرئيس في البلاد تؤكد اهتزاز سيطرة الحكومة على الأوضاع.
(2)
المدهش حقا أنه كلما تضخمت الحكومة وزاد وزنها، كلما انعكس ذلك سلبا على قدرة الدولة على إدارة الحكم وسيطرتها على الأوضاع.. لقد شكل الحزب الحاكم برئاسة عمر البشير خلال الأسابيع الماضية أكبر حكومة في تاريخ البلاد؛ فقد بلغ عدد الوزراء ووزراء الدولة 74 وزيرا، فضلا عن نائبين للرئيس، وخمسة مساعدين، و450 عضوا برلمانيا قوميا، ورئيس لمجلس الولايات، ونائبين له، و12 رئيس لجنة برلمانية بدرجة وزير، و18 واليا، و18 رئيس مجلس تشريعي ولائي، و1408 أعضاء مجلس تشريعي ولائي، إلى جانب المعتمدين وعشرات الوزراء الولائيين.. أما مخصصات هذا الجيش الجرار من الدستوريين، من رواتب وغيرها تقدر بأكثر من 19.5 مليار جنيه سوداني شهريا، أو ما يعادل نحو ثلاثة ملايين دولار أمريكي.. الجميع يذكر أنه قبل 3 سنوات قال الرئيس البشير أمام البرلمان إنه قرر إجراء إصلاح هيكلي لتقليص عدد المناصب الدستورية والوزراء، حيث سيطال التقليص أكثر من (100) منصب في الدولة، كما سيطال المئات من المناصب الإدارية في الولايات، لكن الأقوال شيء والواقع المرير شيء آخر.. الوطن المأزوم غدا حقل تجارب، فالسياسيون استخدموا العديد من المصطلحات لوصف تجاربهم الفاشلة، فمن حكومة قومية، إلى حكومة عريضة وأخرى رشيقة وهلم جرا.. كل تلك التجارب لم تفض إلا إلى فشل متراكم كأنه ظلمات بعضها فوق بعض.
(3)
بعد نحو 7 سنوات عجاف طالبت الخرطوم قوات حفظ السلام المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي بإقليم دارفور “يوناميد” البدء بالانسحاب من ولاية غرب دارفور، فحسب بعد ما كانت تطالبها بالخروج من كل ولايات دارفور الخمس مبررة ذلك بتمتعها بالأمن والاستقرار.. من قبل أقسمت الخرطوم على “يوناميد” لتخرجن صاغرة، وشرع حينها فريق العمل الثلاثي الذي يضم ممثلين للحكومة السودانية والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في مارس 2014 في إعداد تقرير بشأن إستراتيجية مغادرة بعثة حفظ السلام السودان.. لكن مجلس الأمن الدولي قد قرر الأسبوع الماضي تمديد فترة بقاء “يوناميد” بدارفور لعام جديد وكان آخر تمديد لمجلس الأمن حتى 30 يونيو 2015.. حتى اليوم فقدت “يوناميد” 214 قتيلا من بين مراقب وضابط وجندي وموظف مدني خلال تواجدها في السودان، وتعتبر قوات “يوناميد” أكبر بعثة أممية من نوعها في العالم، وتسيّر يومياً 160 دورية على امتداد إقليم دارفور الذي يفوق مساحة فرنسا. وتنتشر “يوناميد” عبر 35 موقعاً موزعة في سائر أنحاء ولايات دارفور الخمس.. ويقدر عدد أفراد البعثة بنحو 26 ألفا وميزانيتها بنحو 640 مليون دولار سنويا، خلال العامين 2013 و2014.
(4)
أوقفت السلطات الأمنية في الخرطوم، بث حلقات مسلسل رمضاني عبر الإذاعة السودانية، كان يعالج قضية الفساد وتفشي الرشوة، واتهم كاتب المسلسل وهو اختصاصي نفسي معروف، جهة ما صاحبة نفوذ بالسعي لإيقاف بث المسلسل.. وفوجئ طاقم فترة الظهيرة بالإذاعة الثلاثاء الماضي قبيل لحظات من بث الحلقة رقم 13 من المسلسل، بأمر بإيقاف البث بناءً على توجيهات صدرت إلى مدير هيئة الإذاعة والتلفزيون من سلطات عليا. ويتناول المسلسل قصة رجل أعمال ثري وذي نفوذ يحاول استغلال كل شيء من سلطة وصحافة للتغطية على ماضيه المشبوه، الذي يدخله في حالة من الاكتئاب الشديد والعقد النفسية ما يدفعه في النهاية إلى محاولة الانتحار فيما يسمى بـ (السايكو دراما)..

العام الماضي وفي نفس التوقيت نشرت صحيفة الصيحة ملفات فساد، لكنها أوقفت لفترات طويلة وشهد مقر الصحيفة عقب تعليق صدورها حملة تفتيش من نوع حملات (الدفتردار) صودرت خلالها ملفات ووثائق كثيرة منها ما نشر ومنها ما لم ينشر بعد.. لكن ثبت أن الفساد بحر يفيض باستمرار وأكبر بكثير من يغطي عليه أو يحاصر أو يصادر.. لقد واجهت الصحافة السودانية في عمومها حملة (حقد) حكومي كما لم تواجه مثله من قبل.. المسؤولون الذين أقضت كراسيهم الصحافة هم الذين يتصدون اليوم وبمختلف الأسلحة غير المشروعة للصحافة والصحفيين.