الصادق الرزيقي

مع الباز وكارلوس!!..


> لتجدني أكثر الناس احتفاءً بمنجز عادل الباز الروائي (أيام كارلوس في الخرطوم ..حكاية لم تروَ)، وذلك لمتابعتي معه من فترة طويلة منذ انقداح الفكرة في ذهنه وعمله الدؤوب المضنِ عليها، ثم مخاضها الطويل حتى ميلادها الأبلج قبل أيام. وقد حشد الباز في هذا العمل الضخم، رواية وفيلماً ومسلسلاً، كل أدواته الإبداعية، ليقدم للقارئ عملاً مُتقناً، غني بالمعلومات المثيرة، وبحبكة قصصية شائقة تجبر القارئ على القراءة والتهام الكتاب الذي يضم بين غلافيه ما يزيد عن الثلاثمائة صفحة، في طباعة جيدة ومريحة للعين من دار العين المصرية.
> وماثل عادل النوع الجيد من الروايات التي تناول وقائع وحوادث حقيقية حدث، يُضفي عليها بلغة مليئة بالإبهار والحكي المُبهر من (البهارات)، والسرد الوصفي الدقيق والإيقاع المتسارع في الأحداث، ماثل روايات عالمية عديدة، مثل (قصة بحار تحطمت سفينته)، للكولمبي غابرائيل غارسيا ماركيز، عندما وجد في رواية حقيقية حدثت لسفينة حربية كولومبية غرقت في البحر الكاريبي، لم ينجُ منها إلا بحاراً واحداً، ظل لأسابيع وأيام وليالٍ على مركب نجاة صغير، يصارع الأمواج والجوع والعطش والبرد والمطر، حتى تم العثور عليه بعد مكابدة قاسية مع الحياة، رأى فيها الموت ألف مرة..
> وكذلك مقاربة أخرى لماركيز في (حالة اختطاف)، وكثير من رواياته الشهيرة التي كانت في الأصل وقائع حصلت بالفعل وحولها الإبداع الساحر إلى أعمال إبداعية ضخمة، طبقت شهرتها الآفاق، وكثير من الأدب العالمي والإبداعات الروائية تأخذ هذا المنحى، وهي تُعطي الأدب قيمته. فالأحداث والمرويات الحقيقية، تصبح في كثير من الأحيان في حالتها وصورتها التجريدية، مجرد معلومات صلدة.. باردة.. تؤخذ كما هي لا تقبل التأويل أو الحذف أو الإضافة، لكن الإبداع الروائي يحولها لصور حية نابضة بالحياة، تكون المشاهد فيها قطعة مجتزأة ومتحركة وحية من زمن مضى..
> لو لم يفعل عادل إلا هذه، لكفاه. فقد قدم صورة جديدة لكارلوس، لم تتوفر في عشرات الكتب التي كُتبت عنه، وفي عدد من الأفلام التي تناولت حياته من بداياته كشاب لاهـٍ في الحانات الفنزويلية يتابع نزواته وشهواته قبل أن تلتقطه الماركسية بكماشتها الدقيقة وترسله إلى موسكو في شبابه الغض ويتحول لأكبر إرهابي مطلوب في العالم، غير أن ما قلته للأخ عادل في منتصف ليلة أمس الأول، والكتاب بين يدي لأقرأه بنهم في ليلة واحدة، إن كنز المعلومات الذي توفر عليه وما جمعه في قصة كارلوس وأيامه في الخرطوم حتى نهاياته حبيساً في سجنه الباريسي، ربما تكون قد ظلمتها الرواية. فالقارئ في كثير من الأحيان لمقتضيات الرواية قد لا يفرِّق بين دفقة ومسحة الخيال المُضفى عليها، وبين الحقيقة المجردة التي لا تشبع نهم المتطلع إليها. ولعادل الباز رأي آخر، في أنه جمع كل المعلومات وقدمها في قالب بديع وبحذق حتى لا تطغى الحكاية في تجلياتها الإبداعية والأدبية على المعلومات الكثيفة التي حصل عليها من رواة وصناع الأحداث والوقائع.
> ربما أضاع عادل فرصاً على أُناس، وزاد في إمتاع كثير من الناس..! أضاع على الباحثين المحققين الأكادميين فرصة الاستفادة من معلوماته التي لم يقدمها ككتاب يقوم على نسق التحقيقات الصحافية المطوَّلة القائمة على البحث والاستقصاء، ليصبح الكتاب مرجعاً لمن يريد الاستزادة وفق المناهج العلمية البحثية الدقيقة.. وهذا موضوع فيه أخذ ورد وجدال كثير.. لكنه بلا شك أمتع كثير من الناس من محبي الأداب والفنون، بعمل هو بالبداهة الفنية يرقى إلى أعلى مراقي الإبداع القصصي، وقد شطره إلى مشاهد صغيرة وقطع على طريقة السيناريو المُعد لفيلم أو مسلسل، ثم بنى على فكرته المركزية تفاصيل الحبكة الدرامية لبنة لبنة، حتى اكتمل البناء باذخاً في شموخه الروائي العتيد..
> من المنتظر أن تثير هذه الرواية جدلاً ونقاشاً كثيفاً حول مدى التزام الباز بمبدأ مهم في مثل هذه الأعمال المرتبطة بملفات المخابرات، بالتعمية على كثير من أسماء السياسيين وضباط المخابرات وعالمهم الغامض الذي يرغبون أن يبقى طي الكتمان الى الأبد..؟ فقد أطلت روح الصحافي من خلال الحكي المُترع في الرواية أكثر من نفس الراوي وصاحب الحكاية مجرد سرد تفاصيلها للناس. .