مقالات متنوعة

بابكر فيصل بابكر : داعش جاءت من هنا


ظاهرة العنف تعتبر من الظواهر متعدِّدة الأوجه التي لا يمُكن إرجاعها لسبب واحدٍ, بل تشكلها العديد من الأسباب النفسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية, و يتداخل هذا السبب أو ذاك بدرجات متفاوتة في إعداد الكادر العنيف, غير انَّ العامل الأهم بين كل هذه الأسباب هو منظومة الأفكار أو ما نسميه بالآيديولوجيا التي يتمُّ من خلالها السيطرة على الكادر والتحكم فيه بدرجة تجعلهُ مُستعداً للقتل ولو على حساب التضحية بنفسه.
وغنىٌ عن القول أنَّ الحركات الإسلامية العنيفة لم تهبط من السماء, ولكنها تُمِّثل التجلي الأوضح للمأزق الحضاري الذي تعيشه المُجتمعات الإسلامية منذ بدايات القرن التاسع الميلادي, والذي بلغ الأوج مع مطلع القرن الثالث عشر حيث وقع ما أسمَّاه البعض ب “إغلاق العقل المسلم”, ومنذ ذلك التاريخ ساد التيار التقليدي المستند إلى النقل, والذي عاشت في ظله المجتمعات الإسلامية في حالةٍ من الجمود والغربة الزمانية القاسية.
الاغتراب الزماني: الآفة الكُبرى
يُمثل الزمان والمكان مصدرين أساسيين للمعرفة، فلكل زمان معارفه المتنوعة، ولكل مكان علومه الخاصة به, ولا يمكننا الحديث عن الأماكن والأزمان الماضية إلا من خلال وجهة نظر الإنسان الذي عاش فيها، كما أنه ليس بإمكاننا أيضاً التصرف بمعزل عن قوانين العصر أو محاولة استنساخ الزمان وإجهاضه بلا وعي في زمان آخر.
الاغتراب الزماني يعني تمثُل حالة فكرية أو مفاهيمية أو قيمية سادت في وقت مضى والعمل على استدعائها من أجل مواجهة قضايا ومشاكل معاصرة ومُستجدة, ويمثل هذا الاغتراب واحدة من أعصى المشاكل التي تعاني منها مجتمعات المسلمين, حيث يتم الاستناد على مرتكزات فكرية ماضوية مستمدَّة من الفقه الإسلامي في القرون الوسطى من أجل مخاطبة تحديات الحاضر والمستقبل.
وتكمن علة الاغتراب الزماني الأساسية في محاولة التشبث بالموروثات الفكرية بوصفها أحكاما وقوانين سرمدية عابرة للتاريخ، ثوابت لا تتأثر بمتغيرات الزمان والمكان، ولا تتعرَّض للتمحيص والنقد, حيث تتم استعارة الماضي بحسبانه يمثل صورة النجاح المُكتملة وبالتالي يتم تجاهل مبادئ التجربة الذاتية, والركون إلى المفاهيم والأفكار والحلول الجاهزة التي أوجدها أصحابها لمواجهة تحدياتهم الخاصة المختلفة زمانياً.
وكما أنَّ الاغتراب المكاني يزداد حدة كلما زادت المسافات فإنَّ الاغتراب الزمني يزداد حدة كلما طال الزمن. ولمسافة زمنية قدرها عدة قرون لا يمكن أن نتصور عمق الأزمة الإغترابية. لاشك في أنها شديدة الحدة والقسوة على المغترب الزمني وعلى من يعاشره من الزمن المعاصر.
إنَّ معظم المشاكل الاجتماعية التي تعيشها المجتمعات العربية والاسلامية – كما يقول محمد الصندوق – ناتجة عن هذا الفرق الزمني الهائل ما بين الموروث الخامل المكبل للحرية والفكر وما بين ديناميكية الحياة المعاصرة متمثلة بالحرية وسرعة التغير والانفتاح.
لقد لعبت قضية الإغتراب الزماني دوراً مهاً في إحداث حالة التحنط والجمود في منظومة الأفكار الإسلامية ممَّا أدى لأن تصبح هذه المنظومة الحاضنة الأساسية التي تشكلت بداخلها ظاهرة العنف الأصولي في المُجتمعات الإسلامية.

المفاهيم الرئيسية المًستخدمة في الاستقطاب
ويأتي في مقدمتها مفهوم “الأمة الإسلامية” حيث أنَّ الانتماء المرتبط بالعقيدة ومشروع الخلافة لا يُمكن إشباعهُ بالانتماء لدول قطرية حدّد حدودَها المستعمر، فأصبحت في نظرهم هُويّة مصطنعة مفتعلة، لا تساوي شيئًا أمام الهُويّة الإسلامية والانتماء الديني, وهذا الفقر في الهُوية رغم أنه مدفون في الوجدان، إلا أنه قد يكون أقوى الدوافع في التوجهات الجهادية بسبب ضخامة معنى الانتماء في الإسلام.
المفهوم الآخر الذي يُستخدم في الاستقطاب, ويُعتبر من أكثر المفاهيم جاذبية وتجسيداً لمفهوم الأمة الإسلامية على الأرض هو مفهوم “الخلافة الإسلامية”, وهو الأمر الذي انتبه إليه تنظيم “داعش” أكثر من جميع الحركات الجهادية العنيفة التي سبقته بما فيها تنظيم “القاعدة”.
فالخلافة هى السلطة المسؤولة عن تنفيذ الشرع، وهي الكيان الذي يفتح الفتوح كمقدمة لعودة الحلم الإسلامي الكبير, وهذا الطرح البسيط والمُباشر يستهوي كثيراً من الشباب المُفتقر لإشباع الرغبة بالانتماء الكامل للهُويّة الإسلامية الاستعلائية حيث أنَّ غالب الشباب لا يُحبِّون التأصيل المُعَّقد في التدرج في الانتقال للخلافة وتستهويهم هذه اللغة البسيطة والمباشرة، فيشعرون بإنجذاب قويِّ تجاهها.
ولكن هذه الخلافة لا تقوم إلاَّ إذا تمَّ إقناع الكادر بأنَّ “الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة”, وهذه هى النقطة الحاسمة التي يُصبح معها الشاب المؤمن في يدٍ من يقومون بالإستقطاب كالميت بين يدي غاسله, فهو إذ يرغب في عودة الخلافة في أسرع وقت حتى تصبح “كلمة الله هى العُليا” فإنهُ يكون مُستعداً لبذل التضحية القصوى, المتمثلة في بيع الرُّوح رخيصة في سبيل بلوغ تلك الغاية.
وفي هذا الإطار يتمُّ إقناع الكادر بحشد الكثير من الأحاديث والآيات القرآنية من شاكلة (من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق), و (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله), و( تسمعون يا معشر قريش: أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح).
ولكن تبقى الآية الخامسة من سورة التوبة والمعروفة بآية “السيف” هى الأكثر تأثيراً في نفوس الشباب: حيث يقول الحق تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
الحركات العنيفة تفسِر هذه الآية بالقول إنّ عدم الإيمان بالله والاسلام له يعتبر بحد ذاته مُبرراً لإباحة قتل الإنسان حتى اذا لم يكن هذا الإنسان عدواً محارباً , وتنبني هذه الرؤية على مقولات جل علماء الفقه والتفسير الذين يعتبرون أنّ آية السيف قد نسخت كل آية مخالفة , والنسخ هنا يعني أنّ تلك الآيات المخالفة قد ” سقط حكمها وبقى رسمها” ولا ينبنى عليها أي أثر تشريعي.
يتمُّ كذلك إقناع الكادر بضرورة الانضمام لمسيرة الجهاد باستخدام العديد من المفاهيم الأخرى مثل مفهوم “الولاء والبراء” ومفهوم “التتَّرس” وكذلك تستخدم العديد من الفتاوى التي تعضِّد السير في هذا الطريق مثل فتوى “ماردين” التي قال بها إبن تيمية.

أين يتم الاستقطاب
تقوم الحركات العنيفة باستغلال “المسجد” كساحة رئيسية للاستقطاب, وذلك عبر خطب صلاة الجمعة, الدروس التي يتم إلقاؤها في غير أوقات الصلاة, إضافة للتواجد المتواصل لأعضاء تلك الجماعات داخل المسجد وعبر الجمعيات التي عادة ما تعمل على ملء فراغ الشباب عبر الأنشطة الثقافية والاجتماعية .
وهناك العديد من الأمثلة في هذا الإطار, منها حالة “شريف كواشي”, أحد المنفذين لحادثة الهجوم على صحيفة “شارلي إبدو” الفرنسية الذي تلقى تلقيناً دينياً في المسجد الذي كان يرتاده (مسجد طنجة) في الدائرة التاسعة عشرة من باريس والمعروف بميوله المتطرفة والذي كان إمامه يدعى” فريد بن يتو” ينادي بالجهاد في العراق ويبرر الهجمات الانتحارية.
أمَّا خلية هامبورغ المشهورة فقد جرى تجنيد أفرادها في مسجد “القدس” أو “طيبة” الذي كان يرتاده محمد عطا، أحد منفذي هجمات 11 سبتمبر. وكذلك اتضح أنَّ ثلاثة من منفذي تفجيرات مترو الأنفاق في لندن: محمد صديق خان (30 عاما) وشهزاد تنوير (22 عاما) وغيرمان لندسي (19 عاما) كانوا يستمعون الى خطب أبو حمزة في مسجد فينسبري بارك شمال لندن.
كذلك تستفيد الحركات العنيفة من وسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت, خصوصاً تويتر والفيس بوك, في استقطاب الشباب, وقد برع تنظيم “داعش” بصفة خاصة في هذا الإطار حيث وظف أشخاصاً من أصحاب الكفاءة العالية لإدارة أنشطته الالكترونية.
هذه التنظيمات لها وجود فاعل كذلك في ساحات الجامعات, وهى تعمل تحت مظلة الجمعيات الدينية التي يتركز نشاطها في المقام الأول في استمالة الطلاب عبر حلقات النقاش والكتب والتسجيلات الصوتية وغيرها من الوسائل.
بالإضافة لهذه الأماكن والوسائل, فإنَّ أرضية الاستقطاب لهذه الجماعات يتم تمهيدها عبر مناهج التعليم الديني التي يتم تدريسها في المدارس النظامية, وفي أروقة التنظيمات الدينية المُختلفة, وكذلك عبر البرامج الدينية وبرامج الفتاوى التي تبث في مختلف وسائل الإعلام.

أبناء المسلمين في المهاجر الغربية
قد أصبح الشباب المسلم في دول الغرب وأمريكا هدفاً رئيسياً لاستقطاب الجماعات العنيفة, فبعض هؤلاء يعاني من أزمة هوية وإحساس بعدم الانتماء وبالتهميش، وربما يشعر بأنه عرضة للعنصرية في تلك الدول.
كذلك فإنَّ هؤلاء الشباب يشعرون بالاستفزاز بسبب ما يعتقدونه من هيمنة قوى “الكفر” على دول الإسلام، في مقابل ما يعتبرونه تكليفًا شرعيًّا بهيمنة الإسلام على كلّ دين وأن تكون كلمة الله هي العليا, وهو التكليف الذي تعززهُ العديد من الآيات القرانية : (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون) و (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
من ناحية أخرى فإنَّه يوجد بين هؤلاء الشباب من هو ناقمٌ على المهجر الذي يعيش فيه، ويشعر بالغضب من جرَّاء تتالي الأخبار المفزعة والبائسة من بلاده الأصلية، ومن مناظر القتل والدمار في الحروب في دولٍ مثل أفغانستان والصومال و العراق وسوريا وفلسطين.
غير أنَّ هناك قسماً من هؤلاء اليافعين تستهويه روح المغامرة وفكرة حمل السلاح، أو تجذبه دعايات الجماعات العنيفة عن دولة الخلافة الإسلامية التي تتحدى الهيمنة الغربية وتقاتل ضد جبروتها.
كما أنَّ البعض الآخر من الذين يترعرعون في أوروبا وأمريكا يتشرَّب من تلقاء نفسه بالفكر العنيف وذلك لشعوره بنوعٍ من الغربة الروحية في ظلِّ تراجُع أهمية الدين بصفةٍ عامة في المجتمعات الغربية.

نجاحات داعش
تمكنت داعش في فترة زمنية وجيزة من السيطرة على ثلثي الأراضي السورية, وثلث أرض العراق, إضافة لإنتشارها الجغرافي الكبير حيث أصبحت تتواجد في سيناء وليبيا , كما ضمنت لها مبايعة “أبوبكر شيكاو” زعيم حركة “بوكو حرام” النيجيرية تواجداً حقيقياً في عددٍ كبير من دول غرب أفريقيا.
لا يشُكُّ كاتب هذه السًّطور في أنَّ التمدُّد السريع للحركة, والانتصارات السهلة التي حققتها (كما وقع في مدينة الموصل) لم يكن بمنأى عن المصالح المتشابكة للعديد من الجهات الداخلية في العراق وسوريا, إضافة للقوى الكبرى وأجهزة المخابرات الإقليمية والعالمية.
ومع ذلك فإنَّ القدرات الكبيرة التي أظهرتها داعش في استقطاب الكادر, كانت في الأساس بسبب نجاحها فيما فشلت فيه جميع الحركات العنيفة الأخرى (عدا إمارة طالبان) في إنزال حلم قيام “دولة الخلافة” على الأرض, وهو الأمر الذي يُغري الكثيرين بالذهاب للانضمام “للبؤرة الإيمانية” الوحيدة الموجودة في العالم وهو الحلم الأكبر الذي ما انفك يراود الملايين في الدول الإسلامية.
لقد تحقق على الأرض حلم الخلافة الذي كان الدافع الأكبر للإنضمام للجماعات العنيفة, حيث قامت الدولة الإسلامية, وأصبح لها خليفة وعلمٌ وعُملة (الدينار) وجيش وهياكل إدارية, وهو ما فشلت فيه الحركات الأخرى.
ومن ناحية أخرى فقد تمكنت الآلة الإعلامية التي استخدمتها داعش ببراعة من جذب أعداد كبيرة من الشباب المؤمن (بنين وبنات للمرَّة الأولى), بسبب تصويرها للحياة وهى تسيرُ بصورتها الطبيعية داخل دولة الخلافة الإسلامية, فالصور والأفلام المبثوثة تُظهر مقاتلي الحركة وهم يعيشون حياتهم العادية داخل منازل فخمة, ويزاولون أعمالهم من مكاتب حديثة الأثاث (لاحظ الفيديو المنشور للطبيب السوداني).
وذلك على العكس من المواد الإعلامية التي كانت ينشرها تنظيم “القاعدة” في السابق وفيها تظهرالقيادة العليا للتنظيم ( إبن لادن والظواهري) وبقية المقاتلين في الكهوف والممرات الجبلية الوعرة, مما كان يوحي بأنهم مُطاردون ويعيشون حياة غير طبيعية في وسط تلك البيئة الجغرافية القاسية.

ثم ماذا بعد
بما أنَّ الفكر العنيف يتشكل أساساً في العقول, فإنهُ لن يكون مُمكناً التخلص من ظاهرة العنف الأصولي الإسلامي بصورة جذرية إلا “بفتح العقل المُسلم” الذي أغلق بصورة كاملة منذ القرن الثالث عشر. إنَّ الخطر الكبير الذي يمثله مفهوم “الإغتراب الزمني” الذي يسيطر على العقول يكمن في استلاب أجيال بأكملها من الشباب بحيث يجعلهم يعيشون بأجسادهم في عصرنا الراهن بينما عقولهم تمرح في وديان العصور الوسطى بما تحتويه من قضايا وهموم.
ومن البديهي الإشارة إلى أنَّ مسؤولية “فتح العقل” تقع في المقام الأول على عاتق المسلمين أنفسهم وليس غيرهم, وتفيدنا تجارب التاريخ بأنَّ الغرب المسيحي قد مرَّ بذات المرحلة التي يمرُّ بها المسلمون, ولكنه نجح في تخطيها “بفكر الأنوار” الذي جعل الغرب يتجاوز ظلام العصور الوسطى ويُمسك بزمام التقدُّم والحضارة في العالم.

بابكر فيصل بابكر
boulkea@gmail.com