تحقيقات وتقارير

ترجيحات القانون وجدالات السياسة


وقعت محكمة كرري بأم درمان عقوبة الجلد على ثلاثة من منسوبي حزب المؤتمر السوداني بتهمة الازعاج على خلفية إقامتهم لمخاطبات جماهيرية تحض الأهالي على مقاطعة الانتخابات وتنادي بالافراج عن المعتقلين السياسيين. ومع أن القاضي كان في مقدوره إعمال عقوبتي السجن أو الغرامة الواردتين في نص المادة (67) من القانون الجنائي لكنه نزع إلى ايقاع عقوبة الجلد بحق الامين السياسي لحزب المؤتمر السوداني واثنين من رفاقه.

وجرى تنفيذ العقوبة بمجرد النطق بالحكم في حق الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني مستور أحمد، فضلا عن رفاقه عاصم عمر، وإبراهيم زين.

نظرة قانونية

تنص المادة (67) في القانون الجنائي السوداني الواردة ضمن الباب الثامن، الجرائم المتعلقة بالطمأنينة العامة؛ تنص على: (يعد مرتكباً جريمة الشغب من يشارك في أي تجمهر من خمسة أشخاص فأكثر متى استعرض التجمهر القوة أو استعمل القوة أو الإرهاب أو العنف، ومتى كان القصد الغالب فيه تحقيق الفقرة “ج” مباشرة أي حق قائم أو مدعى به بطريق يحتمل أن يؤدى إلى الإخلال بالسلام العام).

أما عقوبة الشغب الواردة في المادة (68) فتقول إن (من يرتكب جريمة الشغب يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز ستة أشهر أوبالغرامة أو بالجلد بما لا يجاوز عشرين جلدة فإذا كان يحمل سلاحاً أو أي أداة مما يحتمل أن يسبب استخدامه الموت أو الأذى الجسيم ، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز سنة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً).

لا للسجن

قد ينظر البعض إلى أن العقوبة صاحبها نوع من القسوة، خاصة وأن وزارة التربية والتعليم على سبيل المثال حرّمت جلد الطلاب وقالت للمنادين بمراجعة هذا القرار إنها لن تعود للعقاب البدني بتاتا. لكن هناك احتمال – ولو ضئيل- بأن يكون القاضي زاهد في زج شباب السوداني في السجن مباشرة، أو بالسجن في حال حكم عليهم بالغرامة بحسبان أن الروح الثوري في دواخل اولئك الشباب ستدفعهم إلى عدم السداد وتقودهم إلى السجن، ذلك في وقتٍ تبقت عشرة أيام فقط على عيد الفطر المبارك وهو مناسبة لتلاقي الأسر وليس فراقهم.

تفاعلات

تفاعلت الساحة السياسية بشدة مع حادثة جلد نشطاء حزب المؤتمر السوداني بتهمة الازعاج العام، واعترض حزب الأمة في بيان ممهور باسم الأمين العام، الناطق باسم الحزب، سارة نقد الله، على العقوبة، التي أعتبرها الحزب تضييقا على العمل السياسي وإذلالا للسياسيين وطالب الأمة بالغاء المادة (67).

أما الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي، كمال عمر، فقد أعتبر الخطوة انتهاكا لحرية التعبير، وتعدٍ على الحقوق الدستورية في مزاولة النشاط السياسي.

ذلك بوقتٍ اختار حزب المؤتمر السوداني تحدي السلطات، وخرج الناطق باسم الحزب، أبوبكر يوسف، إلى سوق بحري، ليخاطب رواد السوق، في تكرار لفعلة رفيقه مستور.

نظرة إلى الخارج

يتوقع أن تثير عقوبة الجلد حفيظة الساسة وفي الغالب سينخرطوا في أنشطة الهدف منها الحيلولة دون تكرار حادثة مستور، لا سيما وأن مواد القانون تطال الجميع بما فيهم ساسة حزب المؤتمر الوطني الحاكم.

كذلك فمن غير المستبعد أن يثير الأمر حفيظة المجتمع المدني الذي يرى في عقوبة الجلد مهينة للإنسان، فيما سيندفع المجتمع الدولي للتدليل على قيام الحكومة بانتهاكات ضد الانسانية لا سيما مع اقتراب موعد تقديم السودان لتقريره نصف الدوري أمام مجلس حقوق الإنسان في سبتمبر المقبل، وليس بعيداً عن الأذهان حادثة لبنى أحمد حسين في حادثة البنطال الشهيرة وهي القضية التي جرى تدويلها حد استضافة لبنى في قصر الاليزيه.

أحكام الشريعة

بيد أن جميع تلك الطروحات تتهاوى أمام تمسك الحكومة السودانية ذات الصبغة الإسلامية بتطبيق الشريعة الإسلامية، والتي يظهر الجلد في عدد من أحكامها لا سيما في قضايا الحدود.

وكان الرئيس المنتخب لولاية جديدة، عمر البشير، دافع عن بشدة عن فيديو حادثة الفتاة التي جرى جلدها بواسطة افراد في الشرطة، وقال البشير في معرض رده على الواقعة وقتذاك: (لن يجري تحقيق في حالة جلدها وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية).

تسيس القضاء

اتخذ قاضي كرري حكمه بموجب نص قانوني يجوّز له المعاقبة بالجلد لمن يخالف المادة (67) ولكن من حيث لا يدري فإن ترجحيه وضع حجر في البركة الساكنة التي سيتكفل السياسيين بإثارتها لأماد طويلة بين متسائل عن سر علاقة حدود الله بافعال سياسية تقديرية، وبين قائل باحتكامه للقانون وللشريعة الاسلامية بتطبيقاتها كافة بما فيها الجلد.

الصيحة