عبد الجليل سليمان

منصور خالد 2-3 و 3- 3


منصور خالد 2-3
قلنا في (قاع) حلقة أمس إن منصوراً بصفته العامة المؤثرة، يبدو مناسباً أكثر من رصفائه الآخرين لابتدار نوع من الحوار المتسم بالهدوء والرويّة حول أدوار المثقفين الفاعلين والخاملين على حد سواء في صناعة الكثير من الأوضاع السياسية وصياغة عديد المناخات الثقافية والفكرية المزرية، ثم التنصل منها وأحياناً إنكارها، أو لف عمامتها على (رأس واحدة)، وتحميل صاحبها الوزر كله.

ولعل منصور خالد – الوارد – في تقرير (الزين عثمان) المنشور في عدد اليوم التالي (الأربعاء المنصرم)، حين أوصى الجيل الحالي بأن (لا تستمعوا لوصية أي شخص تجاوز عمره التاسعة والأربعين)، منحني مبرراً إضافياً للاستطراد في هذه المحاورة، فالرجل وبحسب ما أورده التقرير والعهدة على كاتبه، قال منصور: إن أخصب فترات عمله كانت تلك التي تسنم فيها وزارة التربية والتعليم وقال إنه أنجز خلالها مجموعة من التعديلات لعل على رأسها الاقتناع بأن التعليم الموروث من الاستعمار لم يعد مواكباً لاحتياجات بلاد تبحث عن الانفتاح على الآخرين، وأنه بمشاركة آخرين ساهم في بعض النقلة في ذلك المجال. بالطبع، لا أعرف كثيراً من التفاصيل عن الإنجازات التي حققها منصور خالد في التربية والتعليم، لكنني أعلم أن الفترة التي أنفقها في هذه الوزارة المهمة لم تكن كافية لتحقيق إنجازات يمكن أن نصفها بالمهمة.

لكن فلندع ذلك جانباً ولنعد إلى هيكل الحوار المتمثل في قول منصور بحسب الناقل عنه (الزين عثمان): (إن أهم إنجاز حققه في التربية والتعليم هي تعديلات على رأسها الاقتناع بأن التعليم الموروث من الاستعمار لم يعد مواكباً لاحتياجات بلاد تبحث عن الانفتاح على الآخرين).

هكذا بالحرف، وهذا ما يجعلنا نتساءل هل يعتبر (الاقتناع) بأمر أو فكرة ما إنجازا؟ فإذا كان ذلك كذلك فإن للإنقاذ الحق في أن تصف عملها في رصف الطرق حتى ولو كانت بمواصفات رديئة، وبنائها للسدود حتى ولو لم تبدد (كهربائها) الليالي الظلماء ولم تخضر (مياهها) الأرض البيداء، لها الحق في تصفها بالإعجاز.

لكن الأهم من ذلك كله، هو كيف يمكن أن تسعى للانفتاح على الآخرين بينما تعشعش في ذهنك فكرة التخلص من نظام تعليمي (مدرسي) تصفة بالموروث عن الاستعمار – ثم تقيم هذه الصفة فقط لا غير – مبرراً كافياً للتخلص منه. فهذا المبرر لا يعطي مؤشراً للانفتاح بل على العكس تماماً هذا انغلاق يتقرب زلفى إلى النموذج الطالباني.

لو كان نظام التعليم الموروث من الإنجليز، وهو في واقع الأمر من أنتج منصور خالد ورصفاءه ممن نسميهم (الصفوة)، غير منفتح على الآخر، ومنكفئ على ذاته، لما هاجر من (بريطانيا) إلى مجاهل أفريقيا ولحق بمنصور و(زمرته) في مدارس أم درمان فالتحقوا به، وجعلهم منفتحين على العالم كله، وغير منغلقين على ذواتهم.
……..
منصور خالد 3- 3

قال د. منصور “إن التعليم الموروث من الاستعمار لم يعد مواكباً لاحتياجات بلاد تبحث عن الانفتاح على الآخرين”، هذه العبارة أعادتني إلى مرافعة (د.عبد الله علي إبراهيم) قبل سنوات خلت عن كتابة (بخت الرضا.. التعليم والاستعمار) ومقاربته بين ما أسماه بالتعارض بين منهج المدرسة الاستعمارية وثقافة المجتمع، وضرب فيها أمثالاً لا حيز يتسع لذكرها، لكن يمكن الإشارة إلى فكرتها المحورية، التي تقول (بهدم) البنية التعليمية التي خلفها المستعمر والاستعاضة عنها بتعليم (وطني) يتسق مع ثقافة المجتمع المحيط، وكأن المحيط هذا ذو ثقافة واحدة ولغة واحدة ودين واحد، ووجدان واحد!

بالنسبة لي، فإن وجهتي نظر (منصور وعبد الله) لا تختلفان كثيراً عن قول الطيب صالح بأن الدينكا مجموعة إثنية عربية. وبطبيعة الحال، فإن المتأمل لخطابات المثقفين على هذه الكيفية لن يجد صعوبة في ملاحظة فخاخها، وأولها محاولة السطو على الهدف الرئيس للتعليم المدرسي (الأكاديمي والفني)، وهو تخريج كوادر مدربة ومؤهلة وتوظيفها في الأطر الرسمية وغير الرسمية لإدارة الإنتاج والتنمية في المجالات كافة، وهو بهذا التوصيف ليس له علاقة بالواقع المحيط، فالطب طب، والهندسة هندسة، والجغرافيا لا تتغير، والمفاهيم الأساسية لفن الإدارة المستخدمة في مانشستر هي ذاتها التي ينبغي أن تستخدم في (همشكوريب)، إلا أن المثقفين من الجيلين الأول والثاني وبعد ذهاب الدولة الاستعمارية التي تمرغوا في منجزاتها التعليمية والمدينية، مارسوا تخريباً لا نظير له على البنيات الأساسية في كافة المجالات بدعوى الوطن والوطنية.

للأسف أحياناً يبدون لي وكأنهم فعلوا ذلك بتواطؤ وعن قصد، حتى يتنعموا بما نالوه من تعليم متقدم أطول فترة ممكنة، ولذلك دمروا التعليم، والسكة حديد، ومراكز التنوير والثقافة (السينمات، الأندية الثقافية) وجامعة الخرطوم.

الغريب في الأمر، أنك إذا ما اقتفيت وتعقبت كتابات هذين الجيلين عن تلك الأمور، تجدها متماثلة ومتشابهة مهما كانت الاختلافات الفكرية بين منتجيها، فاليساري يتحدث كما الإسلاموي، والبعثي كما الجمهوري، وكلهم مثل بعضهم، والنتيجة للأسف الشديد هذا التدهور المريع، انهيار في التعليم، ذهاب الجنوب، القبلية والعنصرية، والفساد الرهيب.

فمن هو المسؤول إذن عن كل ذلك؟ أليس هم الوطنيون؟ وماذا فعلوا إزاء التعليم غير أنهم ازدروه وأهانوه بتجييره عن أهدافه الرئيسة إلى أهداف تجعلهم قائمين على السلطة والثروة والفعل السياسي والثقافي والاجتماعي أطول فترة ممكنة، وإلاّ لما فعلوا به هذا، ولكانوا تركوا قواعده ونظمة التي وضعها الإنجليز قائمة وطوروا عليها، ولكانوا فعلوا ذلك مع بقية القطاعات الخدمية والانتاجية، مثل (مشروع الجزيرة، السكة حديد، معامل الأبحاث، جامعة الخرطوم، معهد الكليات التكنولوجية، مستشفى الخرطوم، وسينما كلوزيوم)، وقس على ذلك، ثم لا تستمع أبداً إلى نصيحة رجل تجاوز عمر التاسعة والأربعين، أو كما قال منصور.