تحقيقات وتقارير

“القونة”.. فنانة بيوت الأعراس


هبوط الكلمة واللحن والأداء والسلوك.. يوميات من الشارع العام

هذه المشاهد تتكرر يومياً من مناسبة لأخرى، نُخب البلد، ومثقفو المدينة، والمتعلمون والحاصلون على الدراسات العليا، كلهم في مناسباتهم تسمع الواحد منهم يقول إنه يريد أن يحضر (قونة) لتغني.

ومصطلح القونة هو الفنانة التي تغني في االمناسبات الخاصة وبيوتات الاعراس، وهي في العادة لا تلتزم بالحد اللائق من شروط الفن في تغنيها، بل تشتهر بأداء النوعية من الغناء المعروفة بـ(الغناء الهابط).

كتب: أيمن كمون

وهي تسمية تعارف عليها الشارع السوداني وروج لها المنتفعون منها كـ(فنيي الساوند وسائقي سيارات النقل الخاصة بالفنانات)، ويمكن تعريفها بشكل آخر، هي مغنية تقدم فاصلا غنائيا في المناسبات الخاصة مصحوباً بالرقص المثير والإيقاع الحار دون التقيد بالكلمات او الموسيقى أو حتى بالحد الأدنى من شروط الغناء وواجباته، ودون مراعاة للمكان، فقط هي تتغنى وتطلق العبارات المسيئة والجارحة والخادشة دون حياء او اهتمام، ويحدث ذلك وسط موجة من الهياج يدخل فيها الحضور، وحالة من الرفس والتنطيط بفعل الموسيقى الصاخبة والمتواترة الممتدة دون توقف، ودون توقف هذه نعني بها انها قد تستمر لقرابة الساعتين دون ان يتوقف العزف ولو ثانية او ان تمتد اغنية قرابة الساعة في ثلاث كلمات، كحال أن تمسك المغنية في كلمتين (يا عمر أقول ليك.. يا خالو أقول ليك.. ياحيدر أقول ليك)، فتصبح جملة “أقول ليك” هذه هي الاغنية.

فهل أصبحت هذه القونة سيدة الحفلات الخاصة والمطلوبة في المقام الاول، وهل انتهى عهد الغناء الواضح غير الفاضح في الحفلات الخاصة.. ام انها ظاهرة كغيرها من الظواهر لا بد من زوالها..؟

  • · هذا هو الواقع

لم يكن صعباً علينا الشرح على غير العادة في مثل هكذا مواضيع، ولم يكن شاقاً علينا أن نجد كثيرا من المتابعين والعارفين بهذا الواقع، ولهم رأي مثير وقاطع فيه.

الناقد والصحفي (حمزة علي طه) هو احد الذين استوقفناهم وسألناهم، فانداحوا غاضبين في الكلام قال: (الذي يحدث هو مسؤولية المستمع ومسؤولية الجهات المختصة المسؤولة من امن وسلامة المجتمع.. اتحاد الفنانين.. والشرطة التي تخرج تصاديق الحفلات.. وهذا السلوك خطر ليس فقط على الغناء السوداني بل على سلوك المجتمع ككل، لأنه يفرز لغة ثالثة، غير تلك التي نتكلمها والموسيقى لغة اخرى تدخل في تعامل الناس وتكون في حياتهم اليومية، والمشكلة الكبرى أن هذا الغناء يكون في متناول اطفالنا وشبابنا).

وهو كما نرى، فإن أحد القريبين من الساحة الغنائية السودانية وواحد من اقدم المختصين في هذا المجال، فتح القضية من عمقها غير المرئي، وهو يفيد بان هذه الظاهرة قد تشكل خطراً على سلوك المجتمع، باعتبار ان الكلمات المتداولة تصبح مع مرور الايام تصرفات فسلوك يمارسه الناس.

الفنان ياسر تمتام هاتفناه وسألناها فاحتدم الحديث وانداح فينا، كأنه كان ينتظر منا مثل هكذا نقاش، فقال: (لا يمكن اعتبار مثل هذه الفوضى غناء بأي حال من الاحوال.. وهذه الظاهرة المستفزة للاعراف والتقاليد والذوق السليم لا يمكن تركها لأنها تصيب المجتمع في ثقافته وفنه.. وإنسانه.. يجب محاربتها، فهؤلاء مجرد راقصات لا يقدمن الفن المعروف.. ولا يضفن جديداً لمسيرة الغناء في السودان.. مجرد صخب عال وضجيج مرتفع الصوت.. لا موسيقى لا كلمات ولا حتى سلوك).

ونرى هنا جانبا آخر وهو وجهة نظر فنان، ووضح مما تقدم ان ياسر يرى من زاويته ان هذا ليس غناء وليس طربا وليس فنا، بل هو فوضى يجب محاربتها، وهذا رأي اهل المهنة والممارسة والمعروف ان تمتام هو أحد أكثر الفنانين الذين اشتهروا بالاهتمام بالجوانب الإنسانية في المجتمع.

  • · كيف يبدو الحل

هذا السؤال طرحناه على ضيفينا.. فقال حمزة: (هو مسؤولية الاجهزة الرسمية المخول لها وفق القانون حماية السلوك العام، كشرطة النظام العام، واتحاد المهن الموسيقية وغيرهما).

حمزة يرى أن المعالجة يجب ان تكون من المسؤولين، ويجب ان تعالج بالقانون.

ياسر تمتام قال إنها مسؤولية أخلاقية يجب ان يعرف كل إنسان انه سيسأل مما فعل، وأن عملية الوقوف امام الناس والتغني لهم هي عملية تربوية وتعلمية ورسالية في المقام الاول، وان التاريخ سيحاسبه قبل القانون، وانه لا يرحم ابداً.

ويظل الواقع الغنائي السوداني يعايش الحالة في كل اتجاهاته لاعتبارات كثيرة، أنها عدوى تنتقل بسرعة ربما، أو هو من دواعي التقليد الاجتماعي الاعمى في المجتمع، وتظل الفنانة التي تؤدي بهذا الشكل سرطاناً يعيش ويتغذى على التاريخ الغنائي السوداني، ويصيب الوجدان والذاكرة القومية والثقافية بالداء العضال

 

 

التغيير