الطاهر ساتي

بيت الجالوص!!


:: ومن الأقوال الوسيمة ما تم بها تعريف الناقد قبل قرون.. فالناقد – كما قال كينبيت تينان – شخص يعرف معالم الطريق ولكنه لا يستطيع قيادة السيارة.. تعريف قديم، ولكنه كالذهب لم يصدأ. وأذكر مقالاً للأخ حيدر المكاشفي بالصحافة قبل خمس سنوات تقريباً، تساءل فيه كيف يكون الحال لو جاء القدر بمعشر الصحفيين وكتاب الأعمدة في مواقع الدولة التنفيذية؟ إذ هم الأكثر معرفة بمكامن الأخطاء والأكثر نقداً لتلك الأخطاء، فهل ينجحون في إدارة هذه المواقع أم لا؟.. ويبدو أن تيبان قد سبق المكاشفي بالإجابة عبر ذاك التعريف.. أي أن تكون مرشداً للسيارة شيء وأن تكون قائدها (شيء آخر)!!
:: ثم الإنسان – بفطرته – لا يُطيق النقد، ولكن يظل الناقد – بالذات – هو أكثر أهل الأرض ضيقاً بالنقد، وإن كان صائبا.. وكتبتها ذات عام، في إطار النقد الذاتي، لو أن إذاعة أو فضائية خصصت إحدى مساحات خارطتها البرامجية لأخطاء الصحف والصحفيين لما سعتنا الأرض غضباً وحزناً من نقد تلك المساحة.. نعم، فالحقيقة التي نقر بها هي أن دائرة الديمقراطية في نفوسنا لا تتجاوز دائرة نصف قطرها (الرأي)، ولا تحتمل (الرأي الآخر).. وكثيرة هي شواهد تلك الحقيقة، وآخرها وأوضحها ما حدث – في هذا الشهر الفضيل – للمسلسل الإذاعي (بيت الجالوص).
:: (بيت الجالوص)، لكاتبها الدكتور علي بلدو، ومخرجها الأستاذ محمد بشير دفع الله، تحكي عن أحدهم كان والده زبالاً، فتمرد على أخلاقه وسار في درب الإجرام والثراء الفاحش بتبييض الأموال، حتى صار رجل أعمال ونجم مجتمع.. ومع ذلك، لم ينسَ ماضيه، ويجتهد في التخلص منه بوسائل كثيرة، ومنها نزع البيوت من أصحابها ليهدم بيوت الجالوص التي تذكره بماضيه.. ثم يخدع الرأي العام عبر رؤساء تحرير صحافة مرتشية لتجميل صورته في نظر الرأي العام.. وتوقفت الحلقات – تعسفياً – عند الحلقة (الثانية عشرة)، بأمر الأستاذ الزبير عثمان أحمد، مدير عام الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون.
:: وللأسف، باعتراف الأخ الصادق الرزيقي نقيب الصحفيين، لعب الاتحاد العام للصحفيين دوراً كبيراً في إيقاف هذا (العمل الإبداعي).. فلنقرأ ما يلي: (تقدّم بعض رؤساء التحرير والصحافيين باحتجاج لاتحاد الصحافيين حول المسلسل، وتحرى الاتحاد لعدة أيام وتم الاستماع لحلقات بُثت منه في الإذاعة السودانية، فوجدنا الصورة التي يقدمها المسلسل عن شخصية مهينة للصحافي، وقمنا بإرسال خطاب بعد التحقق من المسلسل وهذا واجب الاتحاد، والخطاب يحمل احتجاج المجتمع الصحفي كله، ويدعو إلى مراجعة أمر بث هذه الحلقات، فهنالك فرق بين حرية التعبير وحرية العمل الإبداعي وبين التعرض للصحف وقدسية العمل المهني وصورة الصحافي)، الرزيقي معترفاً.
:: ليس هناك ما يُبرر لوأد الإبداع، ولسنا أنبياء ولا ملائكة بحيث لا يتناول أهل القصة والدراما بالنقد.. لقد أخطأ اتحاد الصحفيين بالاستجابة لمذكرة من سماهم برؤساء التحرير والصحفيين.. ولقد أخطأ مدير الهيئة أيضاً بوأد هذا المسلسل الذي لم يهدد أمن المجتمع والبلد، بل هو بمثابة نقد إصلاحي للمجتمع والصحافة والبلد.. من هم أصحاب المذكرة؟ لم يذكرهم الرزيقي، ولكن يبدو من رفضهم للمسلسل أن في (بطنهم حرقص)، ولذلك (براهم رقصوا).. استنكروا هذا الإيقاف أيها الزملاء الأكارم، واعتذروا – لبلدو ودفع الله وكل فريق بيت الجالوص – بلسان حال قائل: لا تؤاخذونا بما فعل البعض منا.. إني أعتذر، وليس من العدل أن نستمتع قبل أسبوع بالمسرحية الناقدة للوضع السياسي (النظام يريد)، ثم نستمتع في ذات الأسبوع بوأد المسلسل الناقد للوضع الصحفي (بيت الجالوص).