د.عبد الوهاب الأفندي

سؤال الساعة (والشهر): هل أصحاب السابع من تموز في لندن في الجنة؟


زاد من ألم الذكرى العاشرة لتفجيرات لندن التي توقف عندها البريطانيون عامة وأهل لندن خاصة الأسبوع الماضي، وقوع مجزرة أخرى في نفس الشهر في تونس، راح ضحيتها قرابة نصف عدد ضحايا الحادثة الأولى. وفي الحالين، ادعى مرتكبو المقتلة أنهم مجاهدون في سبيل الله، هدفهم إعلاء كلمة الله، أو الانتقام لضحايا من المسلمين.
ومعروف أن غالبية المسلمين في بريطانيا وخارجها تبرأوا من هذه الجرائم، ومن نسبتها إلى دين الله. ولكن الغالبية لم تطرح السؤال الأهم، فضلاً عن الإجابة عليه: إذا كان ما تم من قتل للأبرياء هو بحق إثم عظيم يبرأ منه الله ورسوله والمؤمنون، فماذا عن دعوى الجناة أنه من طالبي الشهادة، ومعها الدخول الفوري إلى الجنة؟ فهل حقاً سيكون أصحاب السابع من تموز/يوليو ومن جاراهم من الشهداء وأصحاب الجنة؟
بالطبع فإن الإجابة على هذا السؤال هي عند الله تعالى، فعنده وحده جل وعلا علم الغيب، وهو وحده الذي يملك ويحكم، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء. وعند المسلمين كما عند المسيحيين، فإنه لا يدخل شخص الجنة بعمله، وإنما بفضله تعالى.
ولكن الله تعالى أنزل الذكر ليبين للناس ما يتقون، وحذر ورسوله المؤمنين من أفعال بعينها، من يرتكبها يصبح من مستحقي جهنم وبئس المصير. فمن كمال الإيمان أن يعتقد المسلم أن من قتل مؤمناً متعمداً فإن جزاءه جهنم خالداً فيها، لأن هذا ما أخبرنا الله تعالى في صحيح الذكر. كذلك أن من قتل نفساً بريئة فهو كمن قتل الناس جميعاً، بمن فيهم المؤمنون الصالحون والأنبياء.
في الحديث أيضاً أن مرتكب جريرة الانتحار يعذب يوم القيامة بنفس أداة الانتحار. ففي البخاري عن أبي هريرة أن: «مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً». وبنفس القياس، فإن من فجر نفسه ينبغي أن يكون في حالة تفجير ذاتي للنفس في جهنم إلى أبد الآبدين.
وما نعرفه أن أصحاب السابع من تموز/يوليو وشيعتهم، بمن في ذلك مرتكبو مقتلة الحادي عشر من ايلول/سبتمبر، قد ارتكبوا كبيرتي الانتحار وقتل الأبرياء في نفس الوقت. وقد جادل بعض السفسطائيين أن من يقتل نفسه بغرض قتل آخرين معه ليس منتحراً، كأن الجريمة الثانية تخفف من الأولى، وأن نية قتل الآخرين تلغي تلقائياً نية الانتحار. ولا أعتقد شخصياً أن هذه السفسطة تستحق النقاش، وأن أمراً بهذه الأهمية والمحورية في شأن الدين يعالج بهذه السطحية والذرائعية.
أما ما لا جدال فيه فإن جماعة السابع من يوليو، وبدرجة أبشع، جماعة الحادي عشر من سبتمبر، قد قتلوا كثيراً من الأبرياء. فهم لم يحفلوا بهوية من كان يركب في الطائرات أو القطارات أو الحافلات التي فجروها. بل إنهم كانوا يعلمون أن هناك طائفة لا بأس بها من النساء والأطفال في هذه المراكب. وهم بالقطع لم يسألوا إن كان في المراكب أو الأبراج من المؤمنين. وهذا يؤكد ثنائية تعمد قتل الأبرياء والمؤمنين معاً.
احتج هؤلاء وأنصارهم بأن المغدورين لم يكونوا أبرياء، لأن الناخب في الأنظمة الديمقراطية مسؤول عن أفعال حكومته، وهذا بالقطع لا ينطبق على الأطفال والقصر، ولا على المعارضين. وبحسب علمنا فإن هؤلاء يسألون أصحاب القطار إن كان منهم من خرج في المظاهرات المناهضة لغزو العراق. ويحتج مرتكبو هذه الجنايات كذلك بمبدأ المعاملة بالمثل، بدعوى أن الدول الغربية مارست قتل الأبرياء. وهذه حجة إشكالية، لأن مبدأ المعاملة بالمثل يكون بين الأكفاء وفي ظل تشابه الظروف. ولا يمكن أن يكون مثلاً بين دول وجماعات ليس لها صفة رسمية أو تمثيلية عن الجهة المتضررة.
وفوق ذلك فإن هناك حرمات غير قابلة للمساس، مثل حرمة دماء النساء والأطفال ورجال الدين المتفرغين للعبادة، وأماكن العبادة. ولم تراع هذه الجماعات هذه الحرمات، فقد اختطفت الرهبان، وفجرت المساجد والبيع والصلوات التي يذكر فيها اسم الله كثيراً. والمعلوم أن الجهاد لم يشرع في الإسلام إلا للدفاع عن حرية العبادة وحماية أماكنها. ولا أدري بأي حجة يقف شخص أمام خالقه ليدافع عن قتله السجد الركوع أمامه تعالى في ليالي رمضان ونهاره، وفي مساجد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. ويجب أن نعترف أن أصحاب هذه الكبائر هم شجعان حقاً، لأنهم يعتدون على ضيوف الله وفي بيته.
ولكني أريد أن أضرب صفحاً عن كل هذه الأمور، لأن أكبر الكبائر عندي في جريمة السابع من يوليو ونظائرها هي جريمة الخيانة. فمن اختطفوا الطائرات ومن فجروا القطارات تنكروا في هيئة مسافرين عاديين لخداع السلطات ورفاقهم في السفر. وفي هذا الإطار، فإنهم قد احتموا بالقوانين والأعراف التي تحمي المسافرين والمواطنين والمهاجرين في الدول المعنية. فلو أن أحد حاملي القنابل مثلاً طلب من مسافر مساعدته في حمل حقائبه، لما تردد هذا في تقديم يد العون، اعتقاداً بأن الرجل مسافر آمن مؤتمن. كذل فإن أسر بعض من نفذ تلك الجرائم تستفيد من الضمان الاجتماعي والحماية القانونية. بل إن بعض منظري هذه الجماعات كانوا –وبعضهم لا يزال- يقيم في الدول المعتدى عليها، ويذهب أطفاله إلى مدارسها، وتدفع الدولة إيجار مسكنه ومعاشه وأسرته. فالاستمتاع بهذه المزايا ثم ارتكاب جريمة الخيانة في حق من يرتبط المرء معهم بميثاق ضمني هي في حكم من اشترى بعهد الله وميثاقه ثمناً قليلاً، وحكمه ألا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم.
ولكن الجريمة الأكبر هي ارتكاب هذه الخيانة باسم الإسلام، مما يستتبع دمغ كل المسلمين بشبهة الخيانة. وقد روت فتاة مسلمة محجبة أنها كانت تستقل الباص في لندن في ظهيرة السابع من يوليو 2005، بعد سويعات من التفجيرات، وكل همها، مثل بقية سكان لندن في ذلك اليوم، أن تعود لمنزلها بسلام وبأسرع ما يمكن. ولكنها لاحظت أنها كل ما مدت يدها إلى حقيبتها لأي سبب، يسود الحافلة حولها قدر كبير من التوجس والتوتر، ويحبس الكل أنفاسهم. فتجمدت في مكانها حتى بلغت غايتها رفقاً برفقتها من المسافرين!
والسؤال المحوري هنا هو: إذا كان ما قام به أصحاب يوليو من خيانة للأمانة هو مما يأمر به الله تعالى ويثيب فاعله بالجنة، إذن لوجب على كل مسلم أن يسارع لمثله متى أتيحت الفرصة. وإذا كان هذا هو الحال، فإنه يحق لبقية الناس ألا يثقوا بمسلم أبداً، ولما كان لنا مبرر لأن نشكو من استهداف المسلمين وتخصيصهم بإجراءات أمنية إضافية، خاصة الأكثر تديناً. والنتيجة هي أن المسلم «الحقيقي» بنظر هؤلاء لا يجب أن يكون صادقاً مأموناً، مبرأً من الخيانة كما أمره الله تعالى، بل أن يكون خائناً كاذباً، لا يوثق به.
وهذا ما لا يقول به عاقل، فضلاً عن مؤمن. نعوذ بالله من الضلال المبين وسوء الخاتمة.

٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن