الصادق الرزيقي

ومات فرح


> في هدوء غادر العم عبد الرحمن فرح هذه الفانية، وهي الدنيا التي لم تغره ولم تسلبه أغلى ما عنده وجوهرة نفسه الثمينة وضميره الحي وصدقه وولاءه وحبه لبلده، ومن عرفه عن قرب مثلي يعلم حقيقة هذا الرجل وما يكنه لوطنه وما كان يحلم به ويتمناه، فقد ركل السياسة الملتوية عندما وجدها تحوم فقط حول الحمى ولا تنجز شيئاً، ظل صادقاً مع نفسه لا يخادعها ولا ينخدع لزيف الحياة، وقد أعطته الحياة وجرت بين يديه وهو عنها محاذر.. حتى فارقها أول من أمس في دولة الإمارات العربية المتحدة بعد أسابيع من المرض والمكابدة.
> امتدت علاقتي به لأكثر من عشر سنوات متواصلة منذ البدايات الأولى عندما طرح المهندس الطيب مصطفى آراءه الأولى حول الانفصال وعلاقة الشمال والجنوب قبل أن يتحول السودان إلى سودانين، ووقتها التف عدد كبير من الرموز السياسية والعسكرية وقيادات المجتمع من كل المشارب والمنابت الفكرية حول تلك الدعوة في عام 2004م قبل أن تتبلور فكرة منبر السلام العادل، ووجد عبد الرحمن فرح نفسه في قيادة المنبر وواجهته وهو مسلح بقناعاته وتجربته التاريخية وتمخضات سيرته العملية الطويلة، فقد كان أول قائد للبحرية السودانية وسليل الدفعات الأولى للجندية السودانية عند مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، ثم قيادياً بارزاً في حزب الأمة القومي، وهو ينتمي لعائلة أنصارية صميمة دفعت الثمن غالياً بعد نهاية المهدية وخلال العهد الاستعماري البغيض، وتتوجت فاعليته السياسية والتنفيذية عندما أمسك بأخطر ملف حكومي في الديمقراطية الثالثة بعد انتخابات 1986م، وصار المسؤول الأول عن جهاز الأمن في البلاد في موقع شديد الاضطراب والتأرجح لما شهدته تلك الفترة من اضطراب واصطراع سياسي بين القوى الحزبية، وانتهت تلك الديمقراطية بقيام الإنقاذ، وحدث له ما حدث في سنوات الإنقاذ الباكرة من اعتقالات وسجون.. وترك قارب حزب الأمة عندما وجد أن الموقف الصحيح هو أن يصدع بالحق ويجرد حسامه وآراءه للدفاع عن انتماء السودان وهويته وعقيدته ضد مشروع السودان الجديد الذي تتبناه الحركة الشعبية وتسعى لفرضه، ولم يتخذ حزب الأمة موقفاً واضحاً منه.
> وعندما تأسست «الإنتباهة» مذ مراحل الإعداد لصدورها في عام 2005م وكان من المساهمين في شركة المنبر وفي مجلس إدارتها، لم يبخل علينا برأي أو فكرة أو مقترح أو تصويب، شهد معنا مراحلها خطوةً خطوةً، ولم يتخلف يوماً حتى في ساعات المرض والوهن، وكان الملجأ للمتخاصمين عندما تختلف الآراء وتتنافر الاتجاهات، كأنه البوصلة التي تشير للمسار الصحيح.
> أميز ما في العميد «م» عبد الرحمن فرح، هو وضوحه والصدق المتدفق من قلبه، ووضوح رؤيته للأشياء، وصراحته ونفسه العزيزة التي لا تقبل الضيم، وتواضع الكبار والعظماء الذي في سمته وتعاملاته، وتتبدى خصائصه وميزاته في المواقف الصعبة وساعات الانعطاف الذي يحدث، فطريقه واضح وأهدافه محددة وتفكيره وبصره مصوب حيث المرمى الذي يقصد دون تعمية أو تغبيش أو مواربة، لم يتعود غير المضي في طريقه وفق رؤيته ورأيه الذي يجهر به، وتفيض طيبة قلبه ونفسه السمحاء على كل من يتعامل معه، فمن يصغرونه هم أبناؤه أو إخوته الصغار، ومن هم أترابه يشيع بينهم احتراماً يسع الدنيا كلها ولا ينقص.
> كان مخزناً من معلومات وأسرار في مسيرة الحياة السياسية والعسكرية في السودان، وجلها إما أحداث عاصرها أو كان في موقع قرار بشأنها، وتشدهم قدرته الفائقة على استحضار واستدعاء الوقائع والمعلومات وتقديمها في قالب بسيط شائق دون الخوض في تعقيدات الكلام والمفردات المفخمة والمفخخة، وهو يمثل جيلاً توارى عن الحياة العامة، يطوي في صدره ويختزن الكثير من المعلومات الحقائق والمرويات في التاريخ والمجتمع والعسكرية والسياسة وعالم الأمن والمخابرات.
> عاش الرجل حتى ملاقاته خالقه البارئ المصور، وذاكرته حية متوقدة، وتلك من نعم الله عليه، لأن جنانه نقي وصافٍ لم يتلوث، كما أنه ظل حتى قبل أشهر من مرضه ثم رحيله الفاجع، يلعب دوره في الحياة السياسية، وهو مشتعل بالأمل والإصرار على المساهمة في صناعة الحياة والتفاعل معها.. ولو أراد ما في الحياة من نعيم وبريق وبهرج لوجده وقد كان بين يديه وطوع بنانه، لكنه عزيز النفس عظيمها ورقيقها، هكذا عاش .. وهكذا رحل.
> تغمده الله برحمته الواسعة وجعل مثواه روضاً من رياض الجنة وأثابه بعمله مقعد صدق عنده مع النبيين والصديقين والشهداء.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.