جعفر عباس

طفرة تاريخية (1)


صرت أسافر في السنة الواحدة أربع أو ست مرات، وهذه حماقة ما كنت أحسب أنني سأرتكبها عمدا طوال حياتي، وأسميت ذلك الأمر «حماقة»؛ لأنني أخاف من الطائرات راكبا كنت أو متفرجا عليها، ورغم أنني ركبت الطائرات ربما مئات المرات مكرها لا بطل إلا أنني ما زلت أتذكر بالتفصيل، أول مرة ركبت فيها الطائرة في رحلة داخلية بين الخرطوم ومدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور في غرب السودان، وكيف ابتهج الأهل والجيران لذلك الحدث الجلل «جافر هتركب التيارة»، مقولة رددها أهلي النوبيون في المجالس والمحافل باعتبار أن الرحلة بشرى مستقبل واعد لابنهم «جافر» (لا أفهم لماذا اختار والدي لنا أسماء بها حروف يعجز لسانه النوبي عن نطقها بالطريقة الصحيحة: جعفر (جافر)، وآبدين (عابدين)، ومهجوب (محجوب)؟ وكان مؤشر البشارة أن الرحلة كانت على نفقة الحكومة وفي مهمة رسمية.
ثم جاء اليوم الموعود، يوم التوجه إلى المطار لركوب الطائرة للمرة الأولى (وعلى نفقة الدولة)، وامتلأ البيت بالمودعين والزغاريد، وأعدت أمي «الزوادة» أي زاد السفر: دجاجتان محمرتان من وزن خفيف الثقيل لأتناولهما خلال الرحلة التي تستغرق ساعتين.. سبحان الله.. كان نصيب أسرتي من «الدجاج القومي» اثنتين في السنة، وهأنذا استفرد باثنتين في يوم واحد، وكنت أيامها أتوق إلى دخول الجنة؛ كي أشبع من لحم الدجاج فقط، وبالطبع كانت هناك أنواع من الفواكه معروضة في الأسواق، فكرست وقتي لصالح الأعمال لأتذوقها في الجنة.
على كل حال، انطلق الركب صوب المطار والهتافات بحياتي تدوي في الأرجاء «عاش جافر المظفر»، ولأن الحاكم بأمره وقتها كان الفيلد مارشال جعفر نميري، فقد التبس الأمر على رجال الأمن، وحسبوا أن الرئيس استرد بعض شعبيته التي كانت وقتها قد بلغت الحضيض فتقدموا سيارات المودعين بدرجاتهم النارية و«أحلوّت» المسألة، وحسبت أمي حتى صعود روحها إلى بارئها أن الحكومة أيضاً احتفلت بركوبي الطائرة لأول مرة، وقبل الوداع احتضنتني مودعة وقالت: كان أبوك بعيد النظر لأنه أعطاك اسم «جعفر الطيار» وكأنه كان يعلم أنك سترفع رأس العائلة عاليا بأن تكون أول أفرادها ركوباً للطيارة (وعلى حساب الحكومة كمان).
تعاملت مع مسئولي المطار بأدب بالغ لأنه كان من الأسرار المعروفة أن معظمهم من رجال الأمن، وذلك خشية أن يقوم أحدهم بافتعال مشكلة معي لإعادتي إلى البيت أو ما هو أسوأ منه وإحراجي أمام الجماهير المحتشدة.. ولكن الله سلّم.. وتوجهت صوب الطائرة ثم وقفت مصعوقاً عندما وقعت عيناي عليها.. كان واضحا أنها ضلّت طريقها من المتحف.. فلم تكن تشبه من قريب أو بعيد تلك الطائرات التي شاهدت صورها في الصحف والتلفزيون.. وكان محركها يسعل بشكل مثير للرثاء، والدخان يتصاعد من مساماتها العديدة.. وقلت: واحسرتاه فقد كتب عليّ أن أسافر بطائرة تعمل بالفحم؟ ودخلت جوف الطائرة متحصنا بالمعوذتين ويس وتساءلت: هل من الوارد أن نميري خطط لتصفيتي جسديا باستدراجي إلى هذا الشيء المجنح لأنه علم أنني لم أذكره بخير يوماً ما؟
طارت الحسرة ومعها التساؤلات عندما تحركت الطائرة في المدرج،.. عاد الفرح يملأ جوانحي ثم دوت انفجارات متلاحقة وانفرجت أساريري وقلت للجالس إلى جواري مطمئنا إياه: إنها المدفعية.. كنت أقصد بالطبع أن المدفعية أطلقت عدة قذائف بمناسبة الحدث الكبير ألا هو ركوبي للطائرة، ولكن جاري السخيف رد بضيق: أي مدفعية.. إنه عادم الطائرة.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. أول مرة أسمع أن للطائرة عادماً.. ثم أن طائراتنا تلك (إذا جازت التسمية) كانت سلفا تسرب الدخان من أكثر من مئة موضع، فما الحاجة إلى عادم؟
ثم طار ذلك الشيء ونحن بداخله وتضاءلت الخرطوم، إلى أن اختفت، عندئذ تذكرت رسما كاريكاتيريا للفنان المصري الراحل صلاح الليثي في رمضان من ذات عام عندما كان الحصول على بكالوريوس الطب أسهل من الحصول على دجاجة في مصر. في الرسم يمد موظف «الجمعية» لرجل يقف أمامه دجاجتين قائلا «للصائم فرختان»!
ونواصل الطفرة

jafabbas19@gmail.com