جعفر عباس

طفرة تاريخية (3)


عمت الأفراح ديار أهلي النوبيين بعدما كلفني التلفزيون السوداني بمهمة رسمية في الفاشر عاصمة إقليم دارفور، وسبب تلك الفرحة أنني سأركب الطائرة وكمان ببلاش لأن الرحلة على نفقة الدولة، وركبت طائرة مهلهلة المفاصل، من طراز فوكرز، طارت بنا وهي تئن وتزن، ووصلت الفاشر بسلام، وغمرني بعض أهلها بكرم فياض، وتحولت المهمة الرسمية إلى سلسلة متصلة من الولائم، حتى حان موعد العودة إلى الخرطوم، وبحثت عن بديل للطائرة أعود به ولكن هيهات فقد كان ذلك موسم الخريف وكل الطرق البرية مقطوعة بسبب السيول.
وقضيت الليلة السابقة لرحلة العودة مرتجف الاوصال وأنا أدعو الله حدوث شيء يمنعني من ركوب تلك الطائرة. كأن تقوم حركة انفصالية بإعلان استقلال غرب السودان، أو حدوث انقلاب في الخرطوم يؤدي إلى «ربكة» عامة تؤخر سفري إلى حين حصول شركة الخطوط الجوية السودانية على طائرات جديدة لرحلاتها الداخلية، أو دخول طياري تلك الشركة في اضراب يؤدي إلى انهاء خدماتهم بالجملة أو حتى «اعدامهم».
ثم أتى الصباح، لأكتشف ان الله استجاب إلى بعض دعائي، فقد دخل نفر من الأصدقاء لإبلاغي بأنني سأكون ضمن ركاب أول طائرة بوينغ 707 تصل إلى الفاشر، فحمدت الله كثيرا لأنني سأركب طائرة حديثة، ولأن البقاء في الفاشر لأكثر من المدة التي حددها لي رؤسائي في الخرطوم، كان سيؤدي إلى حرماني من راتب مدة التأخير، ولم أكن في وضع يسمح بالتضحية براتب ثانية واحدة.
ووصلت إلى المطار تتنازعني أحاسيس مضطربة بين الخوف والرجاء. الخوف طبعا من ركوب الطائرة، والرجاء بأن البوينغ ستكون بلا شك أفضل من طائرة الفوكرز الأثرية، ومددت بصري في أرجاء المطار ثم سقطت فاقد الوعي. فعلى بعد نصف ميل من مبنى المطار رأيت طائرة جالسة فوق شجرة، وعلمت فيما بعد أن سائقها كان يقوم بطلعة تجريبية وهي خالية من الركاب لتقصي صلاحية المدرج عقب يوم ماطر فتزحلقت إلى أن احتضنتها تلك الشجرة، ولم افق من غيبوبتي إلا بتصفيق الجماهير لأول طائرة بوينغ تحط في مطار المدينة، واندفعت مع الآخرين لاستقبال ركاب تلك الرحلة التاريخية، ثم خرج طاقم الطائرة لتدوي الاكف بالتصفيق مجددا، واستطعت أن أميز من بين الوجوه، وجه قبطان الطائرة، فسقطت مرة أخرى مغشيا.
كان القبطان زميلا لي في الجامعة، يدرس الرياضيات، وكان يتمتع بذكاء حاد وكان عقله يفتت «أجعص» مسألة رياضية في ثوان معدودة، ولكنه كان «لعبنجيا» يفعل أي شيء يدخل السرور في نفسه، ذات مرة – في المرحلة الثانوية – خبأ وطواطا في درج الطاولة المخصصة للمدرسين في حجرة الدراسة، فجاء مدرس الفيزياء وحشر يده في الدرج ليخرج ممحاة السبورة فأمسك بالوطواط الذي كشر أنيابه وتم نقل المدرس إلى قسم العناية المركزة في المستشفى ومن هناك إلى «المعاش».
ثم اختفى فجأة من الجامعة، وحسبناها زوغة مؤقتة، ثم اكتشفت بعدها بسنوات، وبالتحديد وأنا في ذلك المطار أنه كان قد غادر السودان ليدرس الطيران ليتسنى له العبث بأعصابي في أول مرة أركب فيها طائرة تنتمي للقرن العشرين، ومن بين عشرات الأوجه التي ازدحمت بها ساحة المطار التقط ذلك اللعبنجي وجهي، واندفع نحوي متلقيا اياي بالأحضان، وكان في صدري بقية أمل في أن يكون مرتديا زي الطيارين من باب «الاستهبال» ولكنه أكد لي أنه «قائد أول» الطائرة وانه عاد لتوه من سياتل حيث تدرب على قيادة البوينغ.. وسألته: ولماذا لم تحصل على لجوء سياسي أو اجتماعي في أمريكا حتى أرتاح منك؟ وكان رده بليغا: ستعلم لماذا لم أفعل ذلك عندما تركب الطائرة وانطلق بك في الجو فوووووو.

jafabbas19@gmail.com