مقالات متنوعة

محمد رفعت الدومي : السقوط في حفرة الببر


كتاب أنيق كما يليق بامرأة تملك قدراً أصفرَ من الجمال الآسيويِّ الجارح ، كما كانت تملك أيضاً قدراً فائضاً عن حاجتها من الشرِّ المحتجز في أعماقها ، وضع حداً حين انسكب لحياة (115) إنساناً بالإضافة إلي طاقم طائرة الخطوط الكورية الجنوبية التي انفجرت في نهايات نوفمبر العام (1987) ..

إنها الجميلة الكورية الشمالية “كيم هيو” ، ولقد أفرغت في هذا الكتاب ، من مكان احتجازها المشوش ، كل ما ظلَّ حياً في جيوب ذاكرتها ، وهو كثير ، حول الرحلة (858) ، التي انتهت بفضلها هي ، وشريكها ، إلي قاع الألم ، تاركة وراءها مكتبة من الذكريات ، ورماد الأحلام المحترقة !!

ويستطيع القارئ دون أن يبذل جهداً ، أن يمسك بيديه الندم يرجُّ قامته في قلبها ، الذي تفتَّتَ بفعله حزمة من القبور الطارئة ، وأصبح نومها ملجأً أميناً للكوابيس !!

لقد أدركت “كيم هيو” لأول مرة ، حيث لا يوجد تراجع ، أنَّ الكوريين الشماليين متشابهون جداً ، ليس فقط ذلك التشابه الناجم عن الجيتو ، الذي يولد في العزلة ، ولا تشابه الألم الذي يمارس في الممرات ، وإنما لأنهم متشابهون في العيش في أوصال قوقعة رديئة ، حيث توقف الوقتُ وتجاوز الأساليب ، ومتشابهون أيضاً في الالتفاف حول الإيمان بمفهوم “الكلُّ في واحد” ، أو “الزعيم الخالد” ، ذلك المفهوم الذي أهمله العالم بشكل عميق في مسيرته نحو الرقيِّ ، وتبني الممر الصادق نحو وضع إنسانية الإنسان كزنبقة في الروح ، ” الواحد في كلِّ ” ، حيث الفردية والاستقلالية وحراسة جذور الإخلاص للوطن الخالد لا الأشخاص الزائلين ..

كما أدركت ، وهذا هو الأهم ، أن الحياة أثمن من أن يبذرها حيٌّ ، كما كادت أن تفعل هي ، لولا حرصها علي الحياة ، في سبيل إنسان مثله ، حتي وإن كان الزعيم ” إيل سونج” ، مؤسس كوريا الشمالية ، والأب الروحيَّ لتخلفها المريع عن نصفها الجنوبيِّ الذي خلع ثوب الأنا وأصبح الكون الفسيح !!

لقد علق بأهداب ذاكرتي عنوان هذا الكتاب فجأة ، عندما لمست اليوم حدة الاحتجاجات الطلقة للطلاب ، أولئك الجديرين بالحرية في كل وقت ، ولمست وتيرتها العصبية ، والتي تتضاعف عصبيتها يومياً ، كما لمست إصرارهم علي عدم الانسحاب إلي عتبة الداخل مرة أخري ، وعلينا أن نعترف أولا أنَّ هؤلاء المراهقين يزاولون وجودهم بعناد ، بينما يلاحق الشيوخ أحلاماً عبثية !!

بالإضافة إلي هذا فإنَّ النظام ، وبدلاً من تهدئة قلب مخاوفهم ، يثيرها من خلال غربانه التي تتسلق حناجر الفضائيات صباح مساء ، وذلك النعيب السخيف عن العمالة والخيانة والاختلال العقليِّ وأعقاب السجائر!!

علي أن تهدئة مخاوفهم مهمة شاقة لأنها تتعلق برجل كالدكتور “محمد مرسي” ، واظب عاماً كاملاً علي عدم اعتبار كرامته جزءاً من شخصيته الاجتماعية !!

إنَّ صوراً كهذه تفتت أي انطباع ٍ بالإيمان بمعركة النظام كمعركة صالحة إلي شكوك ، ذلك أن الحدوث المستترة للصورة أخطر مما يتصور محللو البعد الواحد ، بل وتحرض أمواج الخوف علي الإشعاع !!

وإذا كنتُ أظن أن مصر توشك علي السقوط في حفرة الببر ، فلأن هذا علي الأرجح هو الذي حدث ، لا مجرد هرولة إلي الأمام من خلال لعبة الخيال !!

كيف يُبني بيتٌ بأنقاض بيت ، بعدما أسرفت الدماء في الهديل وأصبحت أطرافها تعاليم البوم !!

لا أعتقد أن النظام الذي أزال الدكتور”محمد مرسي” ، تفقَّد جيداً كلَّ مخاوفه مما وراء كواليس ما بعد إزالته ، وربما حدث ، ولكن فاتهم البعد الطارئ في شخصية الكثيرين ، الكثيرين جداً من المصريين ، وهو أن الاستهانة بالموت أصبحت عرفاً دارجاً ..

لا يتحرك الإخوان المسلمون بلا منطق ، هذه حقيقة مؤكدة ، لكنَّ الأخطر أنهم هيَّجوا بلغتهم الخاصة قضية كبري ، فلقد توقفوا عن العمل علي استعادة الحكم ، وانصرفوا إلي العمل بوضوح تام علي الثأر !!

كما توقف قمعُ الهضاب العالية عن الحيلولة دون مشاركة العناصر في المعركة المتحركة !!

ولا شكَّ أنَّ آخرين ، ولا أعني الجهاديين بالضرورة ، يشتركون من الآن في الجبهة السائلة للمعركة المؤجلة ، وفي الصفوف الأولي أيضاً ..

ومما يزيد الأمر خشونة ، أن الإخوان قد انخرطوا ، بعد فوات الأوان ، في الحالة المصرية ، فانخفض في لهجاتهم استدعاء التعاليم الإسلامية للاستحواذ علي العقول البسيطة كما كانوا يفعلون ، وأصبحوا يبدعون النكات المضحكة ، لا نكات عام مرسي عن “حمضين” و”لبوذا البرادعي” السخيفة ، كما يبدعون الأغاني كالأغاني ، ويبدعون أيضاً ، وها هو الأهم ، وسائل الاحتجاج !!

بقي أن أقول :

إنَّ إدانة هذه الحفرة من الداخل هي السبيل الوحيد للخلاص ..

محمد رفعت الدومي