حسين خوجلي

السبت أخدر..!!


(1)
٭ هذه الآلاف التي تملأ أحشاء المدن ليس لها عنوان ولا عمدة ولا شيخ ولا مسؤول ولا بصمة. إنهم مشاريع جريمة .. الخليفة عبد اللّه كان يوفر العمل للعاطل والطعام للشحاد، ولا يخشى في ذلك لومة لائم.. الكثيرون لا يقرأون الخليفة ولا يخرجونه على الناس، لأنهم يخافون عليه من سيوف الرزيقات أو الهبانية أو القوات الدولية.
(2)
قالوا إن الصحف قديماً كان يوزعها «المين شيت». وفي عمارة الصحف الاستقلالية وقف رئيس تحرير محتاراً وهو يشحذ ذهنه لاطلاق خط رئيسي، والفنيون في الانتظار، وبينما هو يحدق في السوق رأى «عسكري» على صهوة حصانه يطارد مجموعة من الباعة المتجولين، فإذا بالعسكري يفقد توازنه ويسقط سقطة مدوية.. هنا صرخ رئيس التحرير فرحاً «وجدتها انقلاب عسكري في سوق الخضار»..!!
(3)
السودانيون يحتاجون لكلمة مسكتة ونهائية حتى يبدأوا في فعل مسكت ونهائي.
كلمة مسكتة مثل سؤال الرجل للإمام علي كرم الله وجهه (كيف يحاسب اللهُ الناسَ في آن واحد؟) فأجاب علي (مثلما يرزقهم).
{ تعالوا مع أطفالنا ونسائنا وأهلينا وناس حارتنا وكل البلد أن نقيم منهجاً للتوقع والإجابات قبل أن نسأل عنها والمصايب قبل أن تفاجئنا. ما رأيكم في إقامة مؤسسة «للخيال» الخلاق.. فالخيال ابن التأمل والتأمل ابن الإيمان ولم أر مؤمناً حقيقياً لا يجيد موهبة التفكر.
(4)
جاءهم مهندماً وأنيقاً فمنحوه الوظيفة ولم يسأله أحدٌ عن الشهادة
تقدم لعروسته المثقفة الطبيبة
فلم يسأله أحد عن الشهادة
دخل دورة حزبية متقدمة في الحزب
لم يسأله أحد عن الشهادة
ولم يطالبه أحد بالشهادة.
واثناء عودته لبيته الأنيق وقد اغلق سيارته المكيفة وليس بينه وبين اعترافاته إلا الهواء العليل والسيمفونية السابعة قال لنفسه وابتسم في حزن «لو كنت أعلم ذلك لبدأت حياتي منذ الابتدائية»!!!
(5)
لا يستحي ..
ويطرق كل الأبواب..
ويدعي كل الإدعاءات الممكنة ..
وفي غالب الاحيان يجد من يصدقه..
وعليه فقد اكتشفت أن (الصفاقة) صفة نادرة في هذا الزمان الأغبر.
(6)
المصارف مترعة بالرساميل والأموال، ورغم ذلك لا تموِّل الجماهير، لأن إداراتها تعرف أن غمار الناس يردون الذي عليهم.. ولذلك آثرت أن تموِّل الرأسماليين لأنها تعرف أن هؤلاء لا يردون الذي عليهم وإن فعلوا فعلى أعتاب الساعة.
(7)
بعض المتفيقهين يعيشون حياتهم ويفنون زهرتها في ترديد اجتهادات السلف.. حتى إذا تحدث في زماننا ابناء ابناء السلف، سلوا عليهم سيوف التكفير ضد التفكير.. سادتي وهل هنالك تبرير للرتابة والفقر والتراجعات أكثر من السبب الآنف الذكر؟!
(8)
ليس عيباً أن نعترف أن الأجيال الجديدة لا تعرف الزراعة ولا تعرف الرعي ولا تعرف طرق الري أو حفر الترع أو استصلاح الأراضي.. ولكن العيب أن نجعل رزق هؤلاء الذين لا يعرفون موهبة الرعي والزراعة، على ظهر بلاد ليس لها من سبيل لكسب العيش إلا عالة على ظهور الرعاة والزراع.
(9)
جاء من اليابان بعد بعثة طويلة.. كانت زوجته من أسر الخرطوم العريقة والمعروفة بالرُّقي والتمدن والعز المؤصل والموثق.
أشاد منزل راقياً بأحد أحياء الخرطوم الجديدة بمقاييس ما بين علمية الغرب وسحر الشرق، كان كلما يهم بدخول الحمام الاستثنائي الفاخر يتراجع خطوتين ويقول لها بصوت خفيض خليط من اللوم والعتب: هذا الحمام غير نظيف يا مدام.. كانت ترد عليه بدهشة:
والله يا دكتور لقد نظفه الخادم والخادمة وراجعته بنفسي وأطلقت فيه وعليه البخور العربي ورششته بعطر اللافندر. كان يردد ملاحظته مراراً وكانت دائماً ترد عليه بذات الرد وبتقطيبة تحولت إلى غضب.
وفي إحدى الأيام استدعاها والخادم والخادمة واستدعى كل خبرته اليابانية في النظافة وشمر عن ساعد الجد «وبلبس خمسة» بدأ في تنظيف الحمام وفي نصف ساعة أخرج منه كوماً من التراب اللاصق والأوساخ ما ظهر منها وما بطن.. فصار يلمع من جديد ويشرق كأنه استدار في يوم مولده حين تم تركيبه.. فغرت الزوجة فاه الدهشة والخادم والخادمة وأضطرت أن تكسر دائرة الدهشة قائلة «النظافة خشم بيوت» ورد في سخرية من زوايا السخرية «وكذلك الوساخة»..
(10)
أنا لست مع الذين يقولون ليل نهار بأن العاصمة قد تريفت..
لا إن الريف الذي كنا نعرفه كان بسيطاً وزاهداً ولكنه كان نظيفاً، العاصمة لم تتريف، العاصمة أتسخت ولعن الله الفقر فقد كان المازني يقول بين يديه «لعن الله الفقر فإن له رائحة».. فكيف بالفقر الذي يتحالف مع الشوارع واللامبالاة والبطالة واليأس.
(11)
قال لي طلاب الجامعة ملحّين بأنهم يرغبون في ندوة وكتبوا العنوان.. اشترطت الموافقة بلكن، وكتبت عنوان الندوة تحت الشعار البرغوتي التالي «قال ابن آدم»:
طوبى للعصافير في هذا القفص
إنها على الأقل
تعرف حدود سجنها
الجائزة في البحث عن دولة الأحرار ودولة العصافير.. والفروقات في المعتقد وحدود السجن.
(12)
مازلنا من أفقر الدول في اكتشاف المواهب والمبرزين، ولذلك فكل الأجيال ما زالت تحتفي بأكثر بيوت الشعر حزناً :
سور متآكل
وقلعة باذخة
بداخلها إنسان وحيد
أشباح غامقة اللون
تدنو بتدبر وبطء
متسترة بعتمة الليل
وفي الحجرات المائة
وبين الممرات الطويلة
يتجول الذعر وترتجف الأبراج

ومن الهدايا:
أصر برعي وعبد العزيز داؤود على الراحل عبد المنعم عبد الحي أن يكتب شعراً وهو يعتذر وبأن موهبته دون ذلك.. وما زالوا يلحون وما انفك يرفض.. وأخيراً رضخ فخرجت مئات الروائع من شاكلة:
حبيبي الدنيا يوم بتروح
لا بدوم لا فرح.. لا نوح
ونحن اليوم ورود بتفوح
غداً نصبح حطام أشواك
تذرونا الرياح في الدوح
فليه قلبك تزيدو جروح
لكن أنساني وأنا أنساك
نتقاسم مرار البين
أنا وإياك..
بالله تأملوا هذه المساحات الممتدة من الايمانيات والفلسفة والرمزيات في هذا النص العجيب الذي يجعل كل النصوص العربية العامية في الغناء «درجة رابعة». وقد كان الراحل البروفيسور علي المك يرى ان الصحيح «غداً نصبح حطام أشواق تذرونا الرياح في الدوح».. كان يصر على استبدال الأشواك بالأشواق، ولذلك عندما يراه الشفيع وهو يستمع له يغني المقطع تارة بالأشواك وتارة بالأشواق.