عبد الباقي الظافر

الجميلة والمجنون ..!!


تحركت مي بسيارتها الفارهة تسابق المطر..منذ أن كانت طفلة تخشى صوت الرعد.. السماء تخذلها وتمطر بغزارة.. الطريق يبدو خالياً في هذا المساء المترع بالمياه..قفزت في ذهنها صورة ابنتها الوحيدة بسمة..حملت بسرعة الهاتف الجوال أرادت أن تتواصل مع أمها لتطمئن على الصغيرة..الأم من الناحية الأخرى تعاجلها بالسؤال عن نتيجة مقابلتها مع الطبيب..ضحكت من شفقة أمها.. رغم أنها وصلت الأربعين إلا أن أمها تتعامل معها على أنها مجرد طفلة..وضعت الهاتف وسألت نفسها كيف كان يمكن أن تكون حياتها دون ماما ليلى.
الخوف يجعلها دائماً تتذكر تجربتها الفاشلة مع الزواج..رغم مرارة التجربة إلا أنها تشعر أنها تحتاج إلى رجل..ماما ليلى دائماً تعارضها.. تطلب منها أن تكون راهبة..لكنها تشعر أنها أنثى .. طبيب الأسنان غازلها في هذا المساء.. تعاملت معه بحسم تحت مظنة أن الرجال لا يحسنون الظن بالمرأة المطلقة .. مازالت مي تسابق المطر الغزير.. لاح شبح في الظلام الدامس ..حاولت بقدر الإمكان أن تتفادى الاصطدام به..في هذه اللحظة فقدت السيطرة على العربة..إنحرفت العربة إلى الاتجاه المعاكس ثم توقفت في فضاء متسع ومغمور بالمياه.
حينما رأت الطريق خالياً همت بالهروب..نور العربة الساطع جعلها تنظر إلى ضحيتها.. بشر سوي يتحرك ويئن من الألم..انتصر ضميرها وتوقفت لإنقاذ المجنى عليه..كانت ترتجف واستشعرت إن شيئا خرج من بين السبيل..توقفت عربة وأخرى لاستكشاف ما يبدو حادث حركة..الإضاءة الكثيفة قهرت الظلام الحالك..حينما اقتربت مع الآخرين من وجه الضحية حست أن الوجه الدامي ليس غريبا عليها..بدا الضحية كرجل خمسيني يرتدي ملابس رثة..تحدث أحد الحاضرين وافتى أن الشخص المجهول يبدو كمعتوه كان يحاول أن يهرب من المطر الكثيف ..المعتوه يفتح نصف عينه وينظر للسيدة التي كادت أن تقتله ويهتف ” مي ..مي”. ثم يصمت ..في هذه اللحظة ترتمي مي على فتاها وهى تصرخ و(تسكلب ) كعادة السودانيآت عند المحن..بدا كل شخص من الحضور ينظر بدهشة للآخر.
في الطريق إلى المستشفى أصرت مي أن تحتضن الشاب الذي يسيل دما في الصندوق الخلفي لسيارة أحد المواطنين..شعرت بألفة ومتعة والرأس الدامي على فخديها.. آه مضت نحو عشرين عاماً على آخر لقاء مع محمد خير الشيخ..كان أول الدفعة في كلية الاقتصاد.. بدأت تتذكر كل شيء.. كان أول حب في حياتها.. كانت ثرية وكان فقيراً يمتلك قميصين وجزمة بالية..دخلت إلى محيطه لأنه كان شاطراً.. لم تستطع أن تصارحه بمشاعرها..انتهى العام الدراسي الثالث وغاب ود الشيخ كما كان يلقبه زملاء الدراسة.. كان غيابه لغزاً.. حتى اضطرت الكلية الاتصال بأسرته ..جاءهم الخبر إن زميلهم أصيب بالجنون.
في الصباح انتهت الفحوصات الطبية إلى أن ضحية الحادث بخير فقط يحتاج إلى راحة واستجمام..في هذه اللحظة اتخذت مي قرار استضافة المعتوه في منزلها في حي الفردوس..بدا لها ود الشيخ مثل طفل.. كانت تشتري له الملابس وتحضر له الطعام .. الحياة عنده انتهت بالسنة الثالثة بكلية الاقتصاد .. لا يتذكر شيئاً بعد ذلك.. قالت مي لنفسها ما أروع أن تتوقف الذاكرة عند الأيام الجميلة.
أمس الجمعة توقفت عربة بوكس أمام بيت أمل في الصافية .. أهل ود الشيخ حضروا من القرية ليأخذوا إبنهم الضائع.. بكت أمل بشدة حينما دس الطالب النجيب بين يديها كراسة بها معادلات الاقتصاد قائلاً ” الإمتحان ما حيطلع من هنا”.