تحقيقات وتقارير

المراكز الثقافية الأجنبية تجتذب الشباب بتقديم لغات وأداب بلدانها


اعتاد المثقفون ـ إن صح لنا التعبير بذلك ـ في الفترة الأخيرة الجلوس في باحات المراكز الثقافية الأجنبية أمام بائعات الشاي، ولعل أبرز تلك المراكز (مركز جوتة الألماني)، و(المركز الثقافي الفرنسي)، بيد أن (المركز الثقافي البريطاني)، لا توجد أمامه بائعة شاي ليتكدس المثقفون أمامه، وتعود المفارقة إلى أن “بريطانيا” احتلت السودان منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى نال استقلاله منتصف القرن المنصرم.
هذا الجلوس أصبح علامة في الحياة الاجتماعية لدى المثقفين يشاركهم فيها بعض الصحافيين المهتمين بالجانب الثقافي، الأمر الذي جلب عليهم نقمة البعض بأن هذا الجلوس ارتهان إن لم يكن استلاباً – على حد تعبيرهم – ووقف بعض مرتاديها في وجه هذا الاتهام ودافعوا عن أنفسهم بقلة المراكز الثقافية المحلية وتبعيتها لكيانات تخدم مصالحها لا تخدم المعرفة الإنسانية غير الاسم فقط.
ولكن رغم ذلك تقدم تلك المراكز تعليم لغات بلدانها مقابل مبالغ مالية زهيدة تكون في شكل (كورسات)، إضافة لتقديم مناشط ثقافية من أمثلة موسيقى مسرحيات، معارض للفن التشكيلي، تدشين كتب، ندوات، وأحياناً منافسات.
خطى وإلفة وجدانية
وجدناهم ثلاث فتيات، وأربعة أولاد يضحكون بملء أشداقهم وأمامهم شاي بلبن وزلابية في باحة (المركز الثقافي الفرنسي) بشارع علي دينار، اقتحمنا جلستهم، وسألناهم عن مغزى جلوسهم هنا وليس في أي مكان آخر، في البدء هاجمتنا “هاجر إبراهيم” بشدة، وقالت: لا تكترثوا لأمرنا، نجلس في أي مكان يحلو لنا، غير أن صديقتها “فاطمة” أنكرت عليها ذلك، وأفادت بأنها تأتي لهنا لتحظى بالرفقة الطيبة مع المبدعين، رغم أنها لا تكتب، ولكنها تهوى الحرف، حسب قولها، لذا تأتي في الأسبوع مرتين (الثلاثاء) و(الخميس)، لتسمع بجديد أقرانها الأدباء، وشدد رفيقهما الجالس معهما “خالد الباسل”، شاعر، على أن خطاه تسوقه الى هنا دون أن يدري، وسمي ذلك بالإلفة الوجدانية للمكان، وقال المكان ليس حوائط بل تواصل بين رفقاء الحرف، وأخذ آراء بعض في كل إنتاج جديد لمختلف صنوف الأدب، وذكر أن التجمع سانحة لتبادل الكتب فضلاً عن إثراء النقاش حولها.
رقي السلوك
كان “إبراهيم” الجالس على بنبر، وأمامه كوب قهوة ساخنة، يفوح منها (بوخ)، يحدق في كتاب ضخم يضعه بين أرجله غير عابئ بأحاديث من هم بقربه، توتره الظاهر يدل على أنه ينتظر أحداً، فكل برهة تصدر منه حركة تدل على صدق حدسنا، تقدمنا ناحيته وبادرناه بالسلام، فرد التحية، بأحسن منها، دردشنا معاً في عدة أمور كلها تخص الأدب ولم ننس ما جئنا لأجله، فقال في هذا الخصوص: إنه يدرس هنا “اللغة الفرنسية”، وأضاف اهتمامي بالثقافة ينحصر في قدرتي على التعبير عما يجيش في دواخلي فقط، وأفاد أن الجلوس بين المثقفين يجعل الإنسان يرتقي بسلوكه، لذا يفضل بعد إنهاء درسه شرب القهوة، تركناه حين حضرت صديقه.
الهام يمتد..
مركز (جوتة الألماني) بعد تحويله من محله القديم بشارع (المك نمر) لمبنى في الشارع الذي يليه من جهة اليمين، لم تبارح بائعة الشاي “حليوة” مبرحها، بل ظلت في مكانها يأتيها رواد المركز، إضافة للصحافيين، حيث أصبحت ملتقى جامعاً لهم.
“موسى أبكر”، القاص اليساري، ذو الشعر المسترسل، قال إنه يأتي هنا لأنه يحس براحة نفسية لا مثيل لها، كما أنه يلتقي بأقرانه المهتمين بالفعل الثقافي، وأوضح أن هذا المكان يكن له احتراماً، وقال إن كثيراً من قصصه غير المنشورة كان لهذا المكان، فضلاً عن أن أفكاره نبعت منه، فيكون عليه أن يصفي ذهنه ليسردها بشخوصها الظاهرة ومغزاها الباطن.
هكذا تظل المراكز الثقافية الأجنبية تجتذب شباب السودان من الجنسين بكل ما أوتيت من حوافز ومغريات.

المجهر السياسي