حوارات ولقاءات

بروفيسور “حسن مكي” :كتلة الإسلاميين لا تزال حاضرة في حياتي لكنني لست جزءاً من سياقها التنظيمي


ثورة (شعبان) بدأ الإعداد لها في لندن.. و”الشريف الهندي” ناقشنا في التفاصيل
ليست لديّ خطوط حمراء في المشاهدة.. و(أغاني وأغاني) فقرة ترفيهية
كتلة الإسلاميين لا تزال حاضرة في حياتي لكنني لست جزءاً من سياقها التنظيمي
زرت “الترابي” لتجديد العلاقة وكوفاء لشخص ملهم.. و(في كلام يقال) وكلام لا يقال
مقدمة
في إطار التعرف على الرموز السياسية والفكرية عن قرب، فتحت (المجهر) ملف الحوارات الاجتماعية بهدف تسليط الضوء على تجارب لقيادات كانت سبباً في تشكيل الواقع الثقافي والسياسي في السودان وما زالت تساهم برؤيتها الثاقبة في إصلاح الحياة السياسية والاجتماعية.. نفرد هذه المساحة للمفكر والسياسي بروفيسور “حسن مكي”، الذي قال لنا إنه ولد عام 1953 وكان والده من متوسطي التجار في الحصاحيصا إن لم يكن من الكبار، وإنهم كانوا أبناء تجار لم يعرفوا الفقر وكثيراً ما يجلسون في القهاوى لارتشاف العصائر، بجانب الأكل في المطاعم. وقال: (أحياناً نأخذ القروش وأحياناً نأخذها خلسة).. وأوضح البروفيسور أنه نشأ في هذه الجو.. وفي الحوار محطات مهمة سياسية وثقافية فتفضلوا بمطالعته.

{ على المستوى العام أنت معروف لكن دعنا نسألك بصورة خاصة.. من أنت؟
_ أنا كتبت حلقات عن حياتي وسميتها (ابن نازح يهدي تجربته) فأنا ابن نازح، والدي من قرية (قنتي) التي تربطها طرق متفرعة بالدبة ونوري.
{ كيف جاء الوالد لأم درمان؟
_ والدي جاء سيراً على الأقدم من هذه المنطقة مع الحمير، ربما كان ذلك في ،1913 لأنه كان يردد (القنبلة ولا دنقلا) والقنبلة كانت مربوطة بالحرب العالمية الأولى واستقر في أم درمان والخرطوم، ثم ذهب إلى مشروع الجزيرة والحصاحيصا.
{ أين كان ميلادك؟
_ ولدت في الحصاحيصا وترتيبي كان الخامس بالنسبة للأخوة، ولدينا شقيقتان، واحدة توفيت ولم أرها أصلاً.
{ حدثنا عن مراحلك الدراسية؟
_ قرأت في (حنتوب) الثانوية، والتحقت بجامعة الخرطوم كلية الآداب، ثم عملت باحثاً بالمركز الإسلامي الأفريقي منذ العام 1981، وبعد ذلك في جامعة أفريقيا العالمية.
{ في (حنتوب).. من كان زملاؤك؟
_ زاملت “قرشي محمد علي”، الآن مدير جامعة السودان الوطنية، وكان هناك “أحمد حمد” شقيق “مضوي الترابي”، وكان معي “مضوي” نفسه.
{ ألم يكن معك شخص من الإسلاميين؟
_ كان هناك (17) شخصاً من الإسلاميين جاءوا إلينا من وادي سيدنا، بينهم “مجذوب الخليفة” و”صلاح ميرغني” و”الأمين عبد الله التوم”.. كلهم أطباء.
{ كيف كان مدخلك للحركة الإسلامية؟
_ تعرفت على الحركة الإسلامية منذ المتوسطة، عندما أقام “الترابي” ندوة وشعرت أن هذا الكلام لأول مرة أسمعه.. أنا كنت أعرف السينما و”عبد الحليم حافظ” و”محمد حمدي”.
{ ثم ماذا؟
_ شعرت أن هذا كلام جديد ودخل مكتبتي الفكرية واستقر، وقرأت بعد ذلك كتاب (معالم في الطريق) وأنا في الصف الثالث أوسطى.. حينما التحقت بمدرسة (حنتوب) دخلت في الأنبوب، الحركة الإسلامية.. (بعد داك يمكن يطلعك في بورتسودان).. (يضحك) أو غريقاً في البحر الأحمر أو الحجاز.
{ في الجامعة بدأ التفاعل الحقيقي؟
_ لما دخلنا الجامعة كنا معروفين للاتجاه الإسلامي، لأنه كان هناك تواصل بيننا عبر مكتب الطلاب، وكان يفترض من (حنتوب) ندخل الجزيرة أبا.
{ كيف تم التخطيط لذلك؟
_ جاءنا “محمد عبد الله جار النبي” واتفق معنا على أن نتوجه إلى الجزيرة أبا بعد نهاية امتحانات الشهادة لنقاتل لكن سبقتنا الأحزاب، و”نميري” دخل الجزيرة أبا وفوّت علينا فرصة الانضمام للإخوان الذين ذهبوا هناك دعماً للجبهة الوطنية المعارضة بقيادة الإمام “الهادي” رحمه الله.
{ ماذا فعلتم بعد ذلك؟
_ بعدها لم يكن دخول جامعة الخرطوم للدراسة من أولوياتنا، وكان همنا قيادة الطلاب لمعركة مثلما حصل في أكتوبر 1964 حتى نقيم نظاماً يتمتع بالديمقراطية وتكون فيه حرية للحركة الإسلامية.
{ لكن يبدو أنكم دفعتم الثمن غالياً؟
_ نعم.. أنا في أولى جامعة فصلت مع مجموعة من الطلبة وقبل أن تتم إجراءات الفصل جاءت أحداث مارس 1971.. الطلاب اعتصموا في الجامعة وأخذوا يرددون (جامعة حرة أو لا جامعة)، وكانوا مصرين على حل سكرتارية الجبهة التقدمية.
{ هل تمكنوا من ذلك؟
_ أعتقد أكبر خطأ ارتكبه الطلبة الشيوعيون كان عندما جاءوا مع الدبابات، وفي النهاية العساكر بقيادة الرائد “أبو القاسم محمد إبراهيم” دخلوا في حوار مع الطلاب وانفض الاعتصام على أن تحل سكرتارية الجبهة التقدمية، وهذا كان بمثابة نهاية للحركة التقدمية في جامعة الخرطوم وعدّوا أن الطلاب نسفوا الشرف الطلابي واستعانوا بقوة من خارج الجامعة، وهذا دفع الشيوعيين للقيام بحركة (يوليو) وفشلت.
{ احكِ لنا عن الإرهاصات التي سبقت ثورة (شعبان)؟
_ كنا نخطط لوراثة النظام آنذاك من خلال قيامنا بحركة طلابية مثلما أطاح اتحاد أكتوبر بـ”عبود”، حتى ندخل في القائمة البيضاء.
{ هل تعرضتم لمضايقة من النظام؟
_ الحكومة كانت شفوقة علينا سمحت لنا كاتحاد للطلبة بزيارة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا قبل (شعبان)، حتى نتعرف على تجاربهم ونبتعد من الهوس الطلابي والثورة والإطاحة بالحكومة.
{ من وجدتم هناك من السياسيين؟
_ هناك قابلنا “الشريف الهندي” و”الترابي” و”عثمان خالد” و”عمر نور الدائم” للإعداد لـ(شعبان).. يعني الإعداد لـ(شعبان) بدأ من العاصمة البريطانية لندن، والمجموعة كان فيها “أحمد عثمان مكي” و”التجاني سراج” و”تاج الدين الشفيع”، ولما رجعنا بدأنا التنفيذ.
{ في لندن ماذا تم؟
_ في اجتماع لندن المشهور قلت لـ”الشريف الهندي”: لا بد أن تأتي لتقود العمل السياسي من الداخل.. “الشريف الهندي” قال: الحزب الاتحادي حاجة فضفاضة، وليس له جهاز تنظيمي مثل الحركات الحديثة وإذا جاء إلى الداخل سيتعطل.. وكان يسأل عن رؤيتنا للعمل. واتفقنا أن نبدأ بالتظاهرات ونعمل على إسقاط النظام عن طريق العمل الشعبي بدلاً عن الحصار الاقتصادي.
{ بماذا بدأتم؟
_ عندما أتينا إلى الخرطوم بدأنا التنفيذ، والحكومة كان (بالها طويل جداً معانا)، بدليل أننا في عملنا قلنا (مافي ناس عندهم فروسية في مجابهة النظام مثل أبناء دارفور)، وأذكر أننا ذهبنا أيام المجاعة 1973م إلى دارفور، أنا والمرحوم “حسن سعد الدين” وكان طالب اقتصاد من أبناء دارفور و”التجاني سراج”، والوفد كان برئاستي.. ذهبنا إلى الفاشر والجنينة حيث كانت المجاعة هناك.
{ كيف وجدتم الأوضاع؟
_ وجدنا مجاعة حقيقية في دارفور والناس يموتون تحت سمع وبصر الحكومة المحلية، ورأينا المقابر التي أقيمت للنازحين لدفن موتاهم وصورنا الناس الذين يقومون بجمع الذرة من المخازن بطريقة تشبه طريقة النمل.. وأقمنا ندوة، وأول تظاهرة تحركت كانت تظاهرة أبناء دارفور.
{ حدثنا عن أوضاعكم في المعتقل؟
_ المعاملة كانت طيبة، لكن نقلنا إلى البحريات وكانت معروفة أنها محل للإعدام ونحن عندما ذهبنا إلى هناك كانت لدينا صورة السجون البحرية التي قرأنا عنها، والسجن وجدت فيه معتقلين كان من بينهم المرحوم “حاج مضوي” و”يس عمر الإمام”.
{ مَن مِن الزعماء كان معتقلاً آنذاك؟
_ وجدت دكتور “الترابي” و”عبد الماجد أبو حسبو” و”أحمد زين العابدين” و”توفيق عثمان صالح”.. معظمهم توفوا.. و”احمد خير” المحامي و”عبد الحميد صالح”، وكانوا يقصون علينا أخبار الحركة الشبابية السودانية، ويحدثوننا عن مؤتمر الخريجين وتكوين الأحزاب، وكانت هذه المرة الأولى التي نتعرف فيها على الحركة السياسية السودانية والمجتمع.. كنا نعرف فقط مصر و”سيد قطب” و”حسن البنا”، وأنا لم أكن أرغب في الخروج من السجن.
{ لماذا؟
_ لم يكن لديّ شيء في الخارج.. الوالد توفي والأكل والكتب متوفرة، والبرنامج كان حفظ القرآن الكريم.. في الأعياد كنا نقوم بإعادة ترميم ملابسنا القديمة والترنم بأغاني العيد ونحاول اصطناع الفرح.. أحياناً يتكرم علينا أهل السجن بفتح الزنازين بعضها على بعض فنقوم بمباركة العيد على إخواننا.
{ يعني لم يكن هناك ما يعكر صفو حياتكم في السجن؟
– نعم.. لكن مرة طالتنا عقوبات في رمضان بسبب زميلنا “الطيب عبد الرحيم” وهو شخص مشاغب قام بكسر شباك الزنزانة وأشعل النار حتى يقوم بتجهيز شاي، وعندما لاحظ الديدبان تصاعد الدخان خرج علينا العساكر وحشرونا في كومر المعتقل.. وأذكر أنني كنت أجلس إلى جوار شقيق “الصادق المهدي” الأصغر “صلاح المهدي” فسألته: إلى أين نحن ذاهبون؟ فقال: إلى دبك.
{ كيف وجدتم دبك؟
_ دبك كانت مقطوعة عن العالم وليس فيها طريقة للتواصل مع الخارج، وما زلت أتذكر عندما زارتني الوالدة ومعها أخي وأختي في دبك.. حيث كان أثر الإرهاق بادياً على وجوههم.
{ متى خرجت من المعتقل؟
– خرجنا أيام المصالحة 1977م، وفي الطريق من المعتقل إلى الخرطوم كنا نهتف.. افتكرنا نفسنا بقينا زعماء.. لكن أحد الإخوان نصحنا بالتوقف عن الهتاف حتى لا نعود للسجن أو يعتقد الناس أننا (شماسة).
{ أطلق سراحكم مع “الترابي”؟
_ “الترابي” وكل السياسيين أطلق سراحهم قبلنا.. وبعد المصالحة وترتيب أمور السياسيين تذكروا أن هناك طلبة مسجونين فقاموا بإطلاق سراحنا.
{ ما علاقة “حسن مكي” بالقنوات المحلية والخارجية؟
_ أنا مهتم بالوضع في مصر، وأعتقد أنه وضع استثنائي جدير بالمتابعة، والوضع في سوريا وليبيا.. ما يجري في هذه الدول سيشكل المنطقة العربية كلها بما فيها السودان.. وما يحدث كأنه حرب عالمية ثالثة.
{ هل تشاهد برنامج (أغاني وأغاني)؟
_ ما عندي مانع إذا وجدت الأولاد يشاهدون (أغاني وأغاني) “بشاهد معاهم” وأعتقد أنه فقرة ترفيهية.. الرسول يقول (ساعة بعد ساعة.. وأن النفوس إذا كلت ملت).. (أنا ما عندي مناطق محظورة لا قراءة ولا مشاهدة).. وفي فترة وجودنا بالخارج ما رأيناه في التلفزيون أكثر مما يشاهده الشباب الآن، لذلك بالنسبة لي ليست لديّ خطوط حمراء لأبنائي وعائلتي.
{ هذا يعني أنك لا تتدخل في حياة أبنائك؟
_ لا أحب التدخل في حياة أبنائي، لكن نحن في زماننا كنا عصاميين.. الآن الشاب حتى بعد التخرج والشغل تظل تدعمه.. أنا عندي بنتي طبيبة ما زالت تحتاج لدعمي لأن مرتبها (638) جنيهاً ولا يكفي المواصلات، وأحياناً تحتاج إلى البقاء في المستشفى إلى منتصف الليل وأنا مستغرب لضعف مرتبات قطاع الأطباء ومع ذلك تقوم بعض الطبيبات بالتبرع للمرضى الفقراء الذين لا يملكون حق (الدرب).
{ هل تأثر أبناؤك بميولك الفكرية وانتموا للحركة الإسلامية؟
_ (مافي واحد حركة إسلامية) لكن متدينين.
{ لماذا؟
_ أنا لديّ رؤية.. هناك فرق بين المتدين والمثقف دينياً.. قد يكون الشخص مثقفاً لكن ليس متديناً ويريد من وراء هذه الثقافة الوصول إلى مكانة اجتماعية أو راتب.. أحياناً تجد إنساناً لا يعطيك إحساساً بأنه مثقف دينياً، لكن يكون أصدق من المثقف دينياً.
{ هل كان زواج البروفيسور تقليدياً أم محكوماً بالعلاقات السياسية آنذاك؟
_ زواجي جاء نتيجة تقاطعات، الوسيط بيننا كان هم الإخوان والأخوات، وأنا كان في ذهني ثلاث أو أربع أخوات، تقاطعن في الطرق (منهن الرفضت ومنهن الوافقت)، التي وافقت كانت من نصيبي.
{ إلى أي مدى أنت مرتبط بالإخوان والحركة الإسلامية الآن؟
_ هذه الكتلة لا تزال حاضرة في حياتي، إذا زرتيني في المنزل ستجدين ضيوفي كلهم من الإسلاميين، وهذا قدرنا وأصبحت هذه الشبكة عالمية.. أنا لما أذهب إلى تونس لا أعرف غير مجموعة “راشد الغنوشي”، وفي السعودية لا أعرف إلا مجموعة “الندوة العالمية”.. آخر مرة زار فيها “عبد المنعم أبو الفتوح”.. السودان جمعت له فيها عدداً من الناس، فأنت لا يمكن أن تخرج من هذه الشبكة والمؤتمر الوطني فيه ناس تربطني بهم أخوة، وهذا جزء من تاريخي.
{ ما شكل علاقتك التنظيمية بهذه الكتلة؟
_ ككيان تنظيمي، أنا لست جزءاً من هذه الكتلة لكن اجتماعياً وروحياً وفكرياً لا أستطيع تجاوزها وإن كنت اختلف معهم سياسياً.
{ كيف نظرت إلى انقسامات الإسلاميين التي أصبحت تحمل لافتات عديدة؟
_ أنا لست جزءاً من هذه الانقسامات.. أتعامل مع الجميع، أقابل “الترابي” وأزوره رغم أنني أول من حملت عليه وبقلب مفتوح أتحدث معه وعلاقتي به جيدة جداً.
{ هل زرته قريباً؟
_ نعم زرته وجلست معه لساعتين.
{ بأية صفة زرته؟
_ زرته تجديداً للعلاقة وتواصلاً، ونوعاً من الوفاء لشخص كان بالنسبة لنا ملهماً وقائداً.
{ لماذا ابتعدت عن المؤتمر الوطني؟
_ أنا شخص لا أطيق الاجتماعات وقد تكون مفاصلتي للمؤتمر الوطني والحركة الإسلامية ليست بسبب اختلافات سياسية أو فكرية وإنما بسبب عدم رغبتي في حضور الاجتماعات.. وعندما كنت في مجلس الشورى كنت أحضر الاجتماعات وانسحب.. الاجتماعات لا طائل منها إلا التي يتم فيها اختيار رؤساء المكاتب.
{ ماذا كانت أجندة اجتماعك بـ”الترابي”؟
_ حاولت استكشاف ما بذهنه.. وطبعاً (في كلام يقال) وكلام لا يقال.. لكن شعرت أنه منسحب.
{ ما مستوى علاقتك بـ”البشير”؟
_ علاقتي بـ”البشير” عادية ورأيي فيه إيجابي.
{ كيف تنظر لمستقبل المؤتمر الوطني؟
_ المؤتمر الوطني (ما فيهو غير “البشير”).. والآن هو منسحب من التفاصيل بسبب عامل السن.. وأتصور أنه أصبح لا يتدخل إلا عند اللزوم، لأنه أدراك أن التدخل في الصغيرة والكبيرة غير مجدٍ.

المجهر السياسي


تعليق واحد