الصادق الرزيقي

صيادون ومعدنون


> العفو الرئاسي المتبادل بين السودان مصر في قضية الصيادين المصريين المتهمين بالتجسس، والمعدنين السودانيين المتهمين بتهم مشابهة، لا يعبِّر بدقة عن حالة تنسيق ورضى ودفء في علاقة البلدين الجارين، بقدر ما يعبِّر عن حالة تشبه ما يُعبر عنه في مجتمعات البقارة بــ«ملاحسة السناكيت»، عندما يقوم ثوران كبيران كلٌ منهما على حذر من الآخر، بإظهار التودد والتقرُّب وتحسس السنكيت في نتوئه الظاهر على مقدمة ظهر الثور الآخر، وهو متحفز لأية خطوة مفاجئة قد تقود للتناطح، ويحافظان على خيط رفيع ما بين العلاقة الحسنة والخشنة ..!
> فالعلاقة السودانية المصرية، حتى اللحظة لم ترسو على جودي الإطمئنان بالرغم من إبداء قيادتا البلدين حرصاً لا سابق له في بناء علاقة تقوم على تعاون وتفاهم لم يحدث مثله من قبل، وقد تم تبادل زيارات في فترات متقاربة هي الأكثر كثافة من عهود طويلة للغاية، لكنها لم تغير الكثير في تعاطي بعض أجهزة الدولة في مصر وإعلامها مع قضايا السودان.
> قضية الصيادين المصريين والمعدِّنين السودانيين، أخذت حيزاً في الاهتمام الإعلامي والسياسي، كان انفراجها ونهاية أشواطها بعفوين رئاسيين «أقرنين أملحين»، صارت بمثابة فتح جديد في التعامل بين الجانبين، بينما في الأساس قضية كان يمكن حلها من البداية في إطار القانوني السليم وعبر القنوات المتبعة دون الحاجة إلى شحنها بهذه الشحنة السياسية الضخمة، فالسوابق الموجودة بين بلدان كثيرة مثل الصيادين المصريين في الشواطئ الليبية، أو صيادو قطاع غزة مع الكيان الصهيوني، وأمثلة لم تجد كلها حظوظها في التناول الإعلامي كما وجدته هذه القضية التي تم التوقيت لحلها عقب افتتاح فرع قناة السويس الجديدة لإعطاء الحدث نفسه هالة كبيرة، شبيهة بتلك التي تحدث في العيدين الكريمين (عيد الفطر وعيد الأضحى المباركين)، ففيهما تلجأ الحكومات في بلدان العالم الإسلامي للإفراج عن السجناء والموقوفين في السجون، ومن قضوا أحكاماً في محابسهم، فيستفيدون من بركة العيدين في الخروج من السجن ومفارقة الأصفاد والإغلال..!
> في ظل الظروف الراهنة عربياً ودولياً وفي المجال القاري والجوار السوداني، لا يمكن الركون إلى خصائص العلاقة السودانية المصرية وخصوصيتها وتاريخها وأزليتها، للحكم على العلاقة بين الجانبين، فهي علاقة تحتاج إلى رؤية جديدة وعمق أكثر وصدق وثقة كبيرة في صناعة واقع مختلف ومستقبل جديد.. فحتى هذه اللحظة لم تتغير النظرة الرسمية المصرية للسودان بدليل أن الإعلام المصري الذي يسبح بحمد السلطة الجديدة أناء الليل وأطراف النهار، وليس فوق شبهة أن السلطة هي صانعته وموجهته ومرضعته، لم يزل هذا الإعلام الرسمي والخاص يقدم صورة شائهة للسودان وقيادته ويتجرأ عليها ويصب جام غضبه على الخرطوم ولم يتخلص من الوسواس القهري والشكوك والظنون والعقد القديمة، فلا يمكن أن نصدق إن الدولة في إطارها الرسمي في قاهرة المعز، هي شيء وإعلامها شيء آخر ..!
> ومن العسير حقاً بناء علاقة فاعلة وقوية وتنسيق مشرك، كما علمتنا تجارب العهود السابقة بين السودان ومصر. استناداً وارتكازاً على العاطفة وحُسن النوايا فقط، فهنالك مطلوبات فعلية وتحركات جادة وتغييرات في النظر والتقييم وتجذُّر في وجدان الشعبين بدفع من قواهما الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية ورموزهما، لرسم معالم لطريق فيه من المنافع والمصالح أكثر من ما فيه من تحشيد العاطفة وجيشانها.
> ولهذا بدت قضية الصيادين والمعدنين وهي ليست الأولى فهذه الحوادث تتكرر باستمرار، فقد سبق عدة مرات احتجاز صيادين مصريين في المياه الإقليمية السودانية في أوقات مختلفة في عهد الإنقاذ وقبله، كما أنها تزامن الوجود والاحتجاز مع فترات شهدت اعتداءات سلاح الطيران الصهيوني على أهداف في شرق السودان وفي عمق أراضينا، ولكن هذه المرة بدت الأمور مختلفة لسبب مختلف، أهمه أن الوضع الراهن بين البلدين كان في حاجة لانفراجات وتقدم خطوات من كل طرف تجاه الآخر.. لكنها في نهاية الأمر تنتمي إلى ما يسميه أهلنا (ملاحسة السناكيت)..