د. ياسر محجوب الحسين

تركيا.. هل تعيد التوازن؟


تشير مجريات الأحداث في المنطقة العربية إلى خريطة جديدة دخلت مرحلة المخاض.. لكن لا يبدو من أهل المنطقة إلا دور الصامت المتفرج، بل إن هناك استسلاماً تاماً لما يجري وفق نظرية الفوضى الخلاقة.. ومن قبل قال دينيس روس أحد دهاقنة السياسة الخارجية الأمريكية، بأن بلاده فوجئت بالربيع العربي، مبينا أنها أحداث “تحمل في طياتها فرصا هائلة ومخاطر كبيرة”.. والفرص الهائلة ليست بالطبع نشر الديمقراطية والسلام، ولكن هي الفوضى الخلاقة التي من خلالها تمكن إعادة رسم خريطة المنطقة.
نظرية الفوضى الخلاقة نادت بها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كونداليزا رايس (2005 – 2009) ومعها عدد كبير من الساسة الأمريكيين، وأصبحت الفوضى الخلاقة بذلك نظرية أمريكية تلائم هذه الألفية المأزومة بالضعف العربي. وتؤكد كل المؤشرات أن تنظيم داعش جزء لا يتجزأ من هذه الفوضى المقصودة لذاتها.
لقد طُرحت على المنطقة العديد من المشروعات منذ مؤتمر مدريد للسلام في بداية تسعينيات القرن الماضي، والتي لا تنتهي عند “الشرق أوسطية” التي طرحها في السابق الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بعد اتفاقيات أوسلو، ثم “السوق الشرق أوسطية” وهكذا ظل هذا الطرح مشروعاً قديماً جديداً، يُطرح في كل مرةٍ تحت مُسميات تختلف قليلاً عن بعضها البعض، وطرحت إدارة بوش الابن من قبل مشروع “شرق أوسط جديد”.. ومشروع الشرق الأوسط الجديد أريد له أن ينطلق من لبنان في يوليو 2006م مع الحرب الهمجية التي شنتها (إسرائيل) على لبنان. ووصفت كونداليزا تلك الحرب بأنها “آلام مخاض لولادة شرق أوسط جديد” وهو ما اعتبر حينها إعلاناً عن الهدف الكامن وراء الحرب.
والولايات المتحدة والغرب وحدة ثقافية واحدة ذات مصالح وأهداف مشتركة، فذاك توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق يقول بكل وضوح: ينبغي أن تنتصر القيم والمبادئ الغربية على ما يُسميه بالتشدد في العالم الإسلامي، معتبرا أن النزاع في الشرق الأوسط والقضايا الأخرى المتعلقة “بالتطرف الإسلامي” تدور حول التحديث وما إذا كان من الممكن أن يعتنقوا (فكرة العولمة) أي النظام الغربي للمبادئ والقيم. وتساءل بلير عما إذا كان في مقدور القيم الغربية أن تكون أكثر قوة للمواجهة والتغلب على قيمهم ومبادئهم.
لقد كان إسقاط النظام في العراق عام 2003، أكبر مفاصل التحولات التي يشهدها اليوم الوطن العربي والتي مهدت للفوضى الخلاقة. لقد حوّل سقوط النظام العراقي استقرار المنطقة النسبي إلى حريق لا يبقي ولا يذر، وباتت إيران في وضع أقوى وتلخّصت الوصفة الأمريكية للعراق باللجوء إلى كلّ ما من شأنه إثارة الغرائز المذهبية بما يخدم المشروع الإيراني في المنطقة.
ومصر اليوم أكبر الدول العربية، على مفترق طرق كبير وتهب عليها رياح كثيرة وتواجه سيناريو شد الأطراف، الدواعش يهاجمون من سيناء وليبيا، وهذا يجعل الأمن والشرطة منهكة في بلد اقتصادها في حالة شبه انهيار، وربما لن تستطيع الحكومة استنفار الأمن والجيش معاً، فكيف الحال إذا انتقلت الحرب من الأطراف إلى المركز عبر رعب التفجيرات على غرار ما يحدث في العراق في ظل استمرار حكومة عبد الفتاح السيسي في عملية الاستئصال السياسي والمدني لجماعة الإخوان المسلمين منذ انقلاب 30 يوليو 2013.
في اليمن، بلد يفتت ويعاد تكوينه وفق رؤية سقوط فكرة الدولة وإحلال رابط جديد يتفوّق على رابط المواطنة. وهو دور يقوم به الحوثيون بدعم إيراني صريح وهو ما سيعطي دفعا جديدا لتنظيم القاعدة هناك.
ويبدو أن تركيا بثقلها السياسي والاقتصادي هي الدولة الأكثر تأهيلا لتحقيق توازن إستراتيجي يمنع انهيارا كاملا لمنظومة المنطقة الجيوسياسية ويقتضي ذلك تحالفا أو على أقل تقدير تعاونا من دول المنطقة.. وتركيا من جهتها ماضية في تحقيق شروط الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي لتصبح عضواً فاعلاً بحلول 2023. فيما تستمر في السعي من أجل الاندماج الإقليمي، على شكل تعاون أمني واقتصادي يجعلها واحدة من أهم عشرة اقتصادات في العالم. وكل ذلك يفضي بها لأداء دور مؤثر في حلّ الصراعات الإقليمية.
إقليميا أظهرت تركيا مواقف حادة تجاه نظام الأسد وجرائمه في سوريا منذ انطلاق الثورة، واحتضنت أنقرة السوريين الفارين من رصاص وبراميل وصواريخ الأسد ووفقا لأرقام الأمم المتحدة، هناك 1.8 مليون لاجئ سوري، بل منحت أنقرة المواطن السوري حق البقاء والدخول إلى تركيا حتى دون وثائق رسمية أو منتهية الصلاحية، فضلا عن احتضان المعارضة السياسية.
وتبشر تركيا بمشروع يعتبر العرب شركاء في المنطقة لا خصوم، وعليه فإن التاريخ المشترك سيؤسس لمستقبل تعاون قد يرقى لمستوى تجربة الاتحاد الأوروبي. فالرهان على أنقرة يبدو المخرج الوحيد للتخلص من نموذج داعش وليس بالضرورة عبر المواجهة العسكرية فحسب ولكن بترسيخ القيم الحضارية في المنطقة.
لقد استطاعت تركيا تسويق نفسها كنموذج إسلامي ديمقراطي ناجح في المنطقة، كما حدث اختراق في علاقاتها مع العالم العربي عبر مواقفها القوية، تأييداً للقضية الفلسطينية وكسر الحصار على قطاع غزة.