مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : عطش على ضفاف النيل


يكاد صراخ المدن والأرياف العطشى في السودان يصمّ الآذان، وهذا يحدث في بلد يشقه سليل الفراديس، بينما تشتعل حرب كلامية وإعلامية على خلفية بناء سدّ النهضة الأثيوبي. حتى العاصمة الخرطوم التي ترتمي بين ضفتي نيلين أبيض وأزرق يمكن تصنيفها من أكثر عواصم العالم قحطاً وجفافاً، بدلاً من ازدهار جنائنها وحدائقها واصطفاف أشجارها وزهورها على جنبات الطرق، فلا شيء عقلاني يمنعها من أن تصير بهذا النعيم المائي إلى قطعة من فراديس الأرض.

قامت حضارات العالم على ضفاف الأنهار فحضارات آسيا قامت على ضفاف أنهار أندوس وكانكز واليانج ودجلة والفرات. وفي أفريقيا كانت ضفاف النيل مسرحاً للحضارة المصرية القديمة، كما شكلت ملامح الحضارة النوبية في شمال السودان. ولا أحد يجادل فيما يمكن أن يحدثه تأثير نهر النيل العظيم على الحياة، فمنذ القدم ارتبط بالزراعة والتنقل من مكان إلى آخر، بالإضافة إلى ارتباطه الوثيق بالمعتقدات الدينية واعتماد الناس عليه في كل أشكال الحياة الأخرى.

وإذا نظرنا إلى خريطة العالم اليوم سنرى كيف أنّ الثروات المائية هي التي تشكل قضايا الأمن القومي واستراتيجيات التنمية. وإذا كانت هناك ثمة حروب دولية أو إقليمية قادمة فستكون بسبب المياه.

ففي تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للبيئة بمناسبة اليوم العالمي للمياه الذي يوافق 22 مارس من كل عام، ذكر أنّ أكثر من نصف العالم سيعيشون سنة 2032م في مناطق تعاني نقصاً كبيراً في الماء بالرغم من أنّ كمية الماء المتوفر تكفي لتلبية احتياجات العالم كله، ومع ذلك لا يزال أكثر من مليار نسمة محرومين من المياه الصالحة للشرب والاستعمال المنزلي، وهو الرقم الذي سيبلغ 1,8 مليار في عام 2025م، إذا تركت القرارات السياسية والاقتصادية في العالم لأصوات خرقاء لم تفلح حكوماتها في إدارة قضية المياه.

وما سيحدث في بقية دول العالم أقلّ بكثير مما يمكن حدوثه على ضفاف النيل، فلا شيء أدعى للبؤس والشفقة ممن يعاني الظمأ والجفاف، والماء تجري على بُعد أمتار منه. كما أنّ هناك تراثاً ذاخراً بالأمثال الشعبية التي تكثف في تعبيرها البليغ عن هذا العجز.

حقّ لمن يقيمون على هذه الضفاف ويموتون عطشاً، التواري خجلاً، إذا لم يكن هناك ثمة إمكانية من التعبير عن إصلاح الأراضي الجرداء وزرع الأشجار من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والبيئية. ما يحدث هو نوع من فشل إدارة الموارد وهذه هي الحقيقة التي تتجلى مجرّدة من أنّه ستتلاشى الحياة إذا استمر نضوب الماء أو نضوب التفكير في كيفية استغلالها، وستتأثر بذلك أنشطة بشرية أخرى أو حضارية، ويتفق العالم أيضاً على أنّ تفاوت الأمم من حيث القوة والضعف مبني على مواردها الطبيعية وكيفية الاستفادة منها وفي مقدمتها الموارد المائية.

تقوم أجهزة الدولة في السودان على نظام الجبايات، حيث تحرص على تحصيل فواتير المياه دون أن تكلّ وبهمة عالية تُحسد عليها من خلال هيئة المياه، التي قامت بربط فاتورة المياه مع الكهرباء لتزيد من تضييق حلقة التعذيب على الجميع، ويتضاعف الحرمان على الفقراء والمعوزين.

وفي السخرية النابعة من هذه الآلام يُحكى أنّ رجلاً كبير السن فتح الباب لطارقه المتوقع وهي موظفة تحصيل فاتورة المياه، وبعد أن طالبته بالدفع بادرها بقوله: “إنك حريصة على المجيء بانتظام، أكثر من المياه التي تحصلين رسومها”. وهنا تنبت الكوميديا مكان التراجيديا، مما يخفّف ولو إلى حين من هذه المعاناة المستفحلة يوماً بعد يوم.

ما يحدث في السودان بدعة في التاريخ، فلم تغادر الحكومات المتعاقبة مرحلة الذات السلبية، والفشل في إدارة الموارد ومنها المائية، فرعاية سر الحياة وروح الكون وسلاحه القادم تكمن في الدفاع عن هذه الموارد التي يجسّد الحفاظ عليها الحفاظ على الحق في الحياة. وبعد أن فشل أهل الحكم في فهم لغات عديدة بسبب سوء التعريفات، فعلى الأقل هناك لغة بسيطة وهي جريان النيل بحكم الطبيعة والهبة الإلهية.