جعفر عباس

النضال أشكال


شهدت مدينة الدوحة إصابة مواطن سوداني بفشل كلوي استوجب زرع كلية جديدة له، فهب أهله وأقاربه يعرضون عليه بدل الكلية عشرًا، ولكن كلياتهم لم تكن صالحة مع صاحبنا، إما لأنها أصلا غير صالحة للاستخدام الآدمي أو لعدم تطابق الأنسجة، ولما عرضت زوجته التبرع بكليتها له، قال لها الأطباء إن احتمالات التطابق النسيجي بينها وبين زوجها ضعيفة، ولكن الفحوصات أكدت خطأ ذلك الافتراض، وجاءت أنسجتها مطابقة تماما لأنسجة زوجها وتم نقل كلية من الزوجة إلى الزوج المسكين الذي سيعيش بقية العمر رهينة لزوجته، التي قدمت إليه قرضا غير قابل للسداد، وزرت البعل المديون في البيت ونصحته بأن يحترم نفسه وأن ينأى بها عن أي موقف قد يدفع زوجته إلى مطالبته برد الدين، أليس مدهشًا أن الأقارب من الدرجة الأولى ربما لا يتوافقون معك فسيولوجيا ويأتيك الإنقاذ من زوجتك؟ كم من الأزواج ذوي الشوارب مستعدون لافتداء زوجاتهم بمنحهن أجزاء حيوية من أجسادهم؟
ورغم تقديري واحترامي لتلك السيدة الفاضلة وسروري لشفاء زوجها، إلا أن في حلقي غصة لأن كليهما ينتمي إلى قبيلة الشايقية التي تجاور أهلي النوبيين في شمال السودان، والتي درجت على الإغارة على ديارنا لإهلاك الزرع والضرع، وحز في نفسي أن هناك من وصف الزوجة الدائنة بأنها «مهيرة» جديدة، ومهيرة الأصلية سيدة شايقية خلدها التاريخ بعد أن ركبت فرسها وتمنطقت بالسيف ووقفت مع الرجال في وجه الغزو التركي، تلهب حماسهم بأشعارها وتحثهم على قتال «التركي الغشيم»، وبالشحن المعنوي الزائد كاد الشايقية أن يصبحوا نسلا منقرضا بعد أن وقف فرسانهم أمام جيش كامل العدة والعتاد في معركة غير متكافئة.
نساء السودان يستخدمن الزغاريد لحمل الرجال على التصدي للمخاطر وأحيانا للتصرف برعونة؛ ففي بعض أقاليم السودان، وخاصة في منطقة قبيلة «الجعليين»، يتسابق الشبان على الوقوف بظهور عارية أمام العريس ليشبعها ضربا بالسوط والكرباج حتى تدمى وسط زغاريد النساء الساديات، وبإمكانك حمل الجعلي على الانتحار بالزغاريد وشعر الحماسة، ويقال إن جعليا سقط في بئر مهجورة وتم إنقاذه وزغردت النساء فرحًا بسلامته فما كان منه إلا أن قفز إلى جوف البئر مجددًا.
وفي جامعة الخرطوم كادت إحدى الزميلات أن تتسبب في كارثة مروعة؛ فذات أمسية قررنا الدخول في تحد ضد الحكومة العسكرية، بإقامة ندوة كان وزير الداخلية قد قرر منعها، وانعقدت الندوة بالفعل وسط السكن الجامعي، فما كان من الشرطة إلا أن تدخلت بالهراوات والغاز المسيل للدموع لفض الندوة، فأمطرنا الشرطة بالحجارة والكراسي واتسع نطاق المواجهة، وعندما أحس رجال الأمن بأنهم في زنقة بدأوا في إطلاق الرصاص الحي، وفجأة انطلقت زغرودة من طالبة في كلية القانون تطلق الزغاريد وتحثنا على الصمود والتصدي، وعندما حمي الوطيس قلت لصاحبي لن نخرج من هنا أحياء ما لم نتمكن من إسكات هذه البنت بضربها بحجر على رأسها، ولكن بدأ العسكر ينسحبون هربًا باتجاه سياراتهم والرصاص يلعلع من كل صوب، واستشهد طالبان وجرح العشرات.
وخلال المعركة التي كادت زغاريد زميلتنا أن تعصف فيها بأرواحنا، فقدت القدرة على الإبصار والتنفس من فرط استنشاق الغاز ودخلت مع زميل لي غرفة لغسل وجهينا بالماء لتخفيف تأثير الغاز على العينين، ولكن شرطيا سخيفا ألقى بقنبلة غاز طازجة داخل الغرفة التي كنا فيها وأغلق علينا الباب، وبعد دقائق فوجئنا بالجندي الباسل يقتحم علينا الغرفة وهو في حالة يرثى لها من فرط استنشاق الغاز، وتوسل إلينا أن نسمح له بغسل وجهه، فقلنا له تفضل، وبعد أن وضع خوذته وعصاه جانبًا أشبعناه ضربا وهربنا بعتاده بعد أن أحكمنا إغلاق الباب عليه (هذه شهادة للتاريخ على أمل أن يعرف الساسة في السودان إسهاماتي النضالية ويفسحوا لي المجال اللائق في حكومة المصالحة الوطنية المرتقبة منذ ربع قرن).

jafabbas19@gmail.com