الصادق الرزيقي

الحريات العربية


> من الصعب جداً وربما يكون ضرباً من الخيال، الحديث عن فضاء عربي معافى في مجال الحريات خاصة الحريات الصحفية، فتجربة العالم العربي أكثر بؤساً من الوضع برمته، فرياح الصراعات والخراب والدمار والقمع والتسلط والقهر والجماعات المتطرفة والإرهاب، تناوش عالمنا العربي من كل جانب، وتزحف الفتنة المذهبية وتنوء بكلكلها على المشهد الراهن، وفي ذات الوقت يتمدد خطاب الكراهية والعنف ولا يدع مجالاً للوعي الخلاق والعقل المدرك في افتراع الطريق الصحيح المفضي للكرامة والحرية والانعتاق من ربقة الماضي الكئيب في ظل النظام الرسمي الذي تحكم لأكثر من خمسة أو ستة عقود بعد خروج الاستعمار وبناء منظومة سياسية في هذه المنطقة تخدم مصالح النخب وربائب المستعمر الذي تركها خلفه لتمارس قمعها بالنيابة عنه لضمان مصالحه وأمن الكيان الصهيوني الذي تم زرعه في قلب الأمة.
> اليوم تستضيف الخرطوم اجتماعات اللجنة الدائمة للحريات، وهي أنشط وأهم لجان الاتحاد العام للصحافيين العرب، فبالرغم من أن اجتماعات اللجنة دورية تعقد كل مرة في عاصمة عربية، إلا أن جتماعات الخرطوم لها أهمية كبيرة في ظل الراهن الماثل في وطننا لعربي الكبير، أولاً لا بد من الإقرار بأن الجسد العربي كله مثخن بجراحاته، وقد شل جهازه العصبي ومواطن التفكير فيه خاصة بعد الارتداد العكسي للربيع العربي الذي أنعش آمال الأمة العربية في الحرية والعيش الكريم، ثم انتكس وتنكب الربيع الطريق ليقع في براثن القهر السياسي من جديد.
> لسيت هناك عاصمة عربية اليوم يمكنها أن ترفع عقيرتها لتقول إن الحرية في مأمن وسلام، وعندما تحاول الصحافة العربية عبر اتحاد الصحافيين العرب والاتحادات الوطنية للصحافيين تلمس وتحسس الطريق، فإن القليل جداً من العواصم المتبقية التي تقف بعيداً عن العنف والتوترات والاضطرابات السياسية والاقتتالات الدامية بمقدورها أن تحتضن مثل هذه الاجتماعات لتقول مع الصحافيين كلمة للتاريخ ..
> حالة الحريات الصحفية في الوطن العربي تشبه بعضها، من المحيط إلى الخليج، وإذا كانت الصحافة هي أوكسجين الديمقراطية كما يقول رئيس الاتحاد الدولي للصحافيين، فإن الاختناق وضيق التنفس ونقص الأوكسجين، هو التشخيص الدقيق لما يعانيه العالم العربي برغم قيمه الحضارية ودوره الذي لعبه عبر العصور وما وهبه للإنسانية من هبات في مجال الفكر الإنساني والعلوم والأخلاق.
> صورة واحدة هي كل ما في جبتنا التي نحن فيها، تتقارب المشاهد والأنماط والسلوك والنتائج والأساليب، بالرغم من الأدوار القومية والوطنية التي لعبتها الصحافة في كل بلد عربي وخلال الانعطافات الكبرى التي عاشتها المنطقة، وظلت ولم تزل الصحافة بمفهومها الكبير، المطبوعة والمسموعة والمرئية وفي المجال الإلكتروني، تلعب أدوارها وتؤدي وظيفتها تجاه المجتمعات العربية تنويراً وتوعيةً وتبصرةً بقضايا الأمة وما يحيط بها ويحاك ضدها، وظلت كذلك شريكاً لا غنى عنه في التنمية السياسية والاجتماعية وفي البناء والنهضة، وواحة ظليلة للأفكار ورئة تنفست من خلالها الجماهير العربية نسمات الحرية القليلة التي تهب عليها من وقت لآخر.
> فمع أننا نعيش اليوم واقعاً مختلفاً، تحاصرنا فيه أزمات وأوضاع مختلفة وظروف ضاغطة بشدة وقوة، فإنه لا مجال لانتشال أمتنا من وهدتها دون أن يكون هناك وعي وحوار يتجاوز عقبات الماضي ويفتح الطريق نحو المستقبل، فللحرية مفهومان، مفهوم سلطوي تحدد مواصفاته ومداه وقيمته السامية والفعلية السلطة، ومفهوم آخر لدى أصحاب الرأي واليراع والفكر، لا ساحل له ولا أمدية ولا حدود ولا فواصل إلا المسؤولية الأخلاقية والوطنية والمهنية.
> فبين هذا وذلك.. يجب الاتفاق على مشتركات ومفاهيم جامعة يؤمن بها الجميع وكل اللاعبين على أرضية المشهد العام، الصحافة تريد حريتها لتقول ما تريده في حدود المصالح العليا والمسؤوليات التي تلقى على عاتقها، والنظام الرسمي العربي يريد ما يهوى وما يعتقد أنه الحق لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه.. فالمعادلة ليست سهلة، فهي معقدة ومركبة، لكنها ليست مستحيلة لو توفرت إرادة وتفاهم مشترك، وعمل الجميع من أجل مصلحة ومنفعة الشعوب العربية دون لبس أو تدليس.