الطيب مصطفى

المعتمدون.. كيف يحكمون الخرطوم؟!


كانت لفتة بارعة أن تبتدر ولاية الخرطوم عملها بعد التشكيل الوزاري الجديد بإقامة ورشة عمل أو ندوة للمعتمدين يتم التداول خلالها حول دور المعتمد، وأن تقدم خلالها بعض الأوراق من خبراء نحارير ملمين بدروب الحكم المحلي ومنعرجاته ويشهد ذلك اللقاء رجال الإعلام والصحافة.
ليت الفكرة تنداح على كل مستويات الوظيفة العامة بما في ذلك مناصب الولاة والوزراء الاتحاديين والولائيين والذين ينبغي أن يعلموا حدود تفويضهم ويحيطوا بمعلومات أساسية يفترض أن يلم بها كل من يتولى منصباً عاماً، وأعجب أننا ولجنا العمل العام لفترة طويلة وتقلبنا في ردهاته بما في ذلك المنصب الوزاري ولم نخضع لأي تنوير سابق للانخراط في تضاريسه، وكان الأولى أن نزود بحزمة من المعلومات السياسية والقانونية التي يحتاج إليها رجل الدولة سلوكاً وثقافة وعلماً.
الأوراق التي قُدمت خلال الورشة تحتاج إلى قراءة متأنية قبل التعليق عليها إلا أنني حاولت خلال اللقاء أن أوجز الحديث عن بعض القضايا التي لا تنال في العادة حظها من الاهتمام ذلك أن الجميع مشغولون بالهموم الحياتية الملحة مثل مشكلات المياه والكهرباء والتعليم والصحة والنفايات وغيرها، ولذلك حاولت أن أوجز كلمتي في ثلاث قضايا تتلخص (في القرب من الناس ومشكلة الأميّة ومشكلة النزوح إلى العاصمة القومية).
لا تزال ترن في أذني عبارة (ود البلة يحفظك الله).. تلك العبارة التي حفرها الأخ محمد حامد البلة في نفوس أبناء الولاية الشمالية حين دهمهم الفيضان في عام 1994 وكان الوالي وقتها (ود البلة) يسهر مع المواطنين حتى الصباح ليشاركهم في مهمة ترس النيل وكبح جماح، إذ كان يتهدد ويتوعد قراهم ومزارعهم.. كان من الصعب تغيير تلك الصورة الذهنية التي انغرست عميقاً في نفوس المواطنين تجاه الرجل مهما (خرمج).. لذلك أنصح فأقول للمعتمدين بل وللولاة جميعاً أحسنوا يحسن الناس إليكم وتقربوا إلى الناس ووطئوا أكنافكم وبشّوا في وجوه رعاياكم يعذروكم ويلتمسون العذر لكم إن قصرتم.
ذلك ما دعاني لأن أوجه رسالتي الأولى إلى المعتمدين.. أن يرفقوا برعيتهم، فقد كان الفاروق عمر يتأوه بالتياع حزين: (يا ليت أم عمر لم تلد عمر)، وهو يحمل نفسه المسؤولية عن بغلة تتعثر، لماذا لم يمهّد لها الطريق.. ذلك ما خلد ذكره في العالمين، فهل يدرك المعتمدون هذه الرسالة ويتحسسون أنين المكروبين من الضعفاء والمعدمين والفقراء والمساكين وهلا تمعنوا في قول الرؤوف الرحيم سبحانه وهو ينكر على قساة القلوب ممن يستنكفون،لا عن إطعام المسكين، إنما عن الحض على ذلك (كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).
امشوا أيها المعتمدون بين الناس في الأحياء الشعبية.. قدموا مبادرات للتكافل.. شاركوا البسطاء في أفراحهم وأتراحهم ولا تكتفوا بمن تعرفون من أصحاب الجاه والسلطان والمال الذين يشار عليكم بأن تنعموا عليهم بالزيارات حتى يمنحوكم من تأييدهم وتأثيرهم فقد عوتب سيد البشر أجمعين لأنه عبس في وجه الأعمى (ابن أم مكتوم) حرصاً منه على هداية أصحاب الوجاهة من مترفي مكة الذين إن أسلموا سيتبعهم الناس انفعالاً بمكانتهم وزعامتهم..
ذلك ما يرفعكم عند الله وعند الناس ويعيد في أشخاصكم سيرة ود البلة.
تحدثت عن الأميّة التي قال وزير الدولة للتربية والتعليم إن عدد من ابتلوا بها في السودان يبلغ تسعة ملايين في 13 ولاية.. العاصمة الخرطوم من أكثرها معاناة بهذه الآفة.. عندما أجريت بعض (التضريبات) قدرت أن الأميين يبلغ عددهم في كل ولايات السودان الـ 18 أكثر من 11 مليون نسمة بما يعني أن ثلث الشعب السوداني يعاني من هذه الآفة التي تتسبب في كثير من أمراضنا الاجتماعية والسياسية بما في ذلك حروب داحس والغبراء التي تفتك ببلادنا، وليس أقل خطراً الجهل بالدين، مما رأينا نموذجاً بائساً له في فضيحة قرية عروس التي فضَحت عجزنا وتقصيرنا الشنيع في حق هؤلاء النسوة اللائي يوجد مئات الآلاف من أمثالهن في شتى أنحاء السودان.
بالله عليكم كيف نتباهى بأنا أصحاب مشروع حضاري وشعبنا يرزح في مستنقع الأمية الدينية والأبجدية بالرغم من أن الله تعالى يقول (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).. كيف نتفاخر بثورة التعليم العالي ونحن نترك شعبنا في نفق الأميّة المظلم ولا نمكنه حتى من تعليم الأساس؟
يجب أن ينهض المعتمدون بهذا العبء من خلال خطة محكمة يحاسبون عليها بعيدًا عن وزارة التربية والتعليم التي لها مهمة أخرى ينبغي أن تتوافر عليها بحيث تعمم تعليم الأساس وتوقف زحف الأمية من تلقاء الصغار.
القضية الثالثة التي اخترتها من بين الهموم الكثيرة التي ينبغي أن يوليها المعتمدون اهتماماً هي مشكلة النازحين الجنوبيين الذين لم أفهم لماذا تدفع بهم الولايات الحدودية إلى الخرطوم بدلاً من ابقائهم بالقرب من وطنهم الأم؟!
قبل أيام كشفت الشرطة الجنائية عن حملة قامت بها لمعسكرات الجنوبيين في أمبدة حيث دمرت القوة التي قامت بالحملة في يوم واحد 750 مصنعاً للخمور البلدية وقبضت على عدد من عتاة المجرمين وعلى عدد كببر من الباقات والزجاج المعبأ بالخمور المعدة للتوزيع في أرجاء العاصمة!
لمصلحة من يُسمح بنزوح الجنوبيين إلى العاصمة بالرغم من انتشار الكوليرا بينهم؟ لمصلحة من نغفل عن الآثار الأمنية والاقتصادية والصحية والاجتماعية والأخلاقية التي تترتب على هذه الهجرة غير الشرعية، وحدثوني عن دولة في العالم تفتح أبواب الهجرة غير الشرعية لبلادها بهذه الكيفية!


تعليق واحد