الطيب مصطفى

الطريق الثالث أو الطوفان


أعجب أننا جميعاً كقوى سياسية نتحدث عن أهمية تقديم التنازلات، ونبدي حرصاً على إنجاح الحوار الوطني باعتباره المخرج الوحيد للبلاد من حالة الاحتقان السياسي التي تمسك بخناقها، والحرب التي أنهكتها وظلت تدمي اقتصادها وتدمر بنياتها وتعطل تطبيع علاقاتها مع ما يُعرف بالمجتمع الدولي الذي يطبق على أنفاسنا حصاراً وتضييقاً.
لكن هل نحن جادون بالفعل فيما نحن بصدده وما نتحدث عنه وتلوكه السنتنا، بل وتمضغه آناء الليل وأطراف النهار، أم أننا نقول ما لا نفعل ونهرف بما لا نعرف في غياب كامل عن أزمات البلاد الحقيقية وما تتطلبه من تضحيات وتنازلات حقيقية تقصر قاماتنا المتدنية عن بلوغ مقاماتها السامية وسماواتها الشاهقة؟.
العبارات التي خرجت من فيه الأمين السياسي للمؤتمر الوطني الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، والتي أكد فيها استعداد حزبه للانتقال إلى مربع ثالث يلتقي فيه مع معارضيه، وأنه (لا يتوقع من أحزاب المعارضة التي تشارك في الحوار بأن تأتي لكي تبصم على ما تقوله أحزاب الحكومة، يعبر عن قناعة لدى قطاع عريض في قيادة الحزب الحاكم لكن يحق لنا أن نسأل الدكتور مصطفى وغيره من القيادات السياسية عن طبيعة ذلك المربع الجديد وسقوفاته.
يعلم ناس الوطني أنه لولا حضور بعض قيادات المعارضة الحقيقية وليس المصنوعة لما وجدت المعارضة من يعبر عنها وعن مطلوباتها المدرجة في خارطة الطريق، فبالله عليك أخي مصطفى كيف تبررون أن يعبر عن المعارضة من يتبنون مواقف الوطني داخل آلية السبعة، وهل نحن جادون فعلاً في الحوار، ونحن نتلاعب بالمعارضة ونخنق صوتها ونأتي بمعارضة اسمية ضرار أكثر تعبيراً عن الحكومة من أحزاب الحكومة؟.
يستطيع الوطني وحليفه ولاعب (فاولاته) الماهر (المؤتمر الشعبي) أن يستأجرا من يتحدث باسم المعارضة زوراً وبهتاناً ممن حضروا لقاء قاعة الصداقة بعد ذلك الانقلاب الذي دبر بليل بعد أن توهموا أن الله لا يسمع ويرى، بالرغم من تلاوتهم قرآن ربنا (إن الله لا يهدي كيد الخائنين)، ولكن هل يحل ذلك أزمة الوطن وهل ينتج حواراً حقيقياً يحقق ما تواضعنا عليه يوم استجبنا لنداء الوثبة لأول مرة؟، ثم أين يقع ذلك في خارطة المربع الثالث؟.
الطريق الثالث الذي تحدث عنه الدكتور مصطفى يحتاج إلى صدق هو جزء أصيل من المشروع الذي قدم شهداء الميل أربعين وصيف العبور أرواحهم رخيصةً في سبيله، وإلى عزمٍ وإخلاصٍ وتجردٍ يقدم المبادئ على مكاسب لعاعة الدنيا، ولكن من يسمع ومن يقرأ ومن يبذل الآن بعد أن سلبت الدنيا منا تلك القيم فتنافسناها كما تنافسها أهل الأهواء، فأهلكتنا أو كادت كما أهلكتهم.
بالله عليكم من الذي أعدَّ ومهر وثيقة اتفاقية أديس أبابا التي رضخت الحركات المسلحة لنصوصها المحكمة مما أجيز في اجتماع الجمعية العمومية لأحزاب الحوار الوطني، وأصبح وثيقة تاريخية؟ أليس هو غازي صلاح الدين الذي تعلمون أخي مصطفى والذي كان حتى وقت قريب يقود هيئتكم البرلمانية وفيها وزراء وقيادات الوطني؟، أين هو الآن بعد أن لفظ النواة وأبعد عن الحوار، وأين غيره ممن تجرد وتسامى واستجاب للحوار؟.
مجلس السلم والأمن الأفريقي الذي أصدر قراراً أحسبُه خطيراً على السودان بعد أن وضع مطلوبات ينبغي أن يستجاب لها في مدى زمني معين يحتاج إلى أمثال الصادق المهدي، وكذلك إلى غازي صلاح الدين في الحوار الوطني، فهو الموصول مع أولئك الذين يعرفهم ويعرفونه حتى يسهم في إزالة الاحتقان والتوتر الذي شهدته اجتماعات المجلس الأخيرة، وحتى يتفاعل رئيس الآلية الأفريقية معنا من جديد.
الطريق الثالث يحتاج إلى جرأة وصدق وتنازلات، وإلى ترفع عن صغائر الأمور وسفسافها وإلى الاستجابة للحوار التحضيري الخارجي الذي يمهد للحوار الداخلي، وذلك من أجل أن يلتئم شمل الوطن وأحزابه وقواه السياسية، وتلك الحاملة للسلاح من أجل التراضي على مسار جديد في مسيرة السودان السياسية.