ضياء الدين بلال

لا يحدث حتى في الخيال (1-2)!


-1-
في سوابق المحاكم السودانية الشهيرة، قصة مثيرة ومعبرة وقعت في خمسينيات القرن الماضي.
قضية ميشيل كتران ضد مجلس بلدية الخرطوم. البلدية قامت بحفر مجارٍ لمياه الأمطار، مغطاة بـ(بلكات الإسمنت) أمام منزل القاضي ميشيل، وتركت حفرةً بلا غطاء. جاء الرجل ليلاً، فسقط في الحفرة، وكُسِرَتْ ساقه.
عندما تماثل كتران للشفاء، قام بتحريك إجراءات قانونية ضد البلدية، مطالباً بتكاليف العلاج، وما لحق به من ضرر، لتوقفه عن العمل لعدة أشهر، وما تكبَّدَه من آلام وأوجاع جراء الحادث.
أطرف طلب قدمه القاضي ميشيل، مطالبته بالتعويض عن متعة اصطحاب كلبه عصراً إلى الحديقة!
كسب القاضي كتران القضية، رغم أنه لم يستوفِ كل مطالبه، والتي منها التعويض عن متعة اصطحاب كلبه إلى الحديقة عصراً!
-2-
صديقي الرائع إسماعيل آدم، أحد أركان مكتب قناة الجزيرة بالخرطوم، ومدير تحريري سابقاً بالعزيزة (الرأي العام)، إبَّان عملي رئيساً للقسم السياسي بالصحيفة، ظل يطاردني قبل أشهر هاتفيَّاً، ويطلب مني توجيه قسم التحقيقات بـ(السوداني)، لإجراء تحقيق حول الشارع الرابط بين الفتيحاب والصالحة.
كان (إسماعيل) يتحدث عن الشارع بقلق ممزوج بخوف خفي، من شيء ما قد يأتي غداً. إسماعيل ظل يؤكد لي على وجود خلل كبير في الشارع، يؤدي لوقوع العديد من حوادث السير المُميتة، وكان يروي لي عدداً منها.
-3-
أصدقُكم القول رغم معرفتي القوية بالحس الصحفي والحدس التحقيقي المتميز للصديق إسماعيل، لم أُولِ الموضوع كثير اهتمام. ربما مشاغل أخرى صرفتني عن توجيه قسم التحقيقات بالذهاب إلى طريق الفتيحاب الصالحة.
في آخر مرة ظهر اسم إسماعيل على شاشة الموبايل، وكنت ملازماً لعزيز لديَّ بالمستشفى، تأخرتُ في الرد، وقلت في نفسي: (يا أخي إسماعيل كرهنا بموضوع طريق الصالحة ده).
عدت إلى إسماعيل، فلم يكن في إمكاني تجاهل الرد عليه، مهما كانت ظروفي الشاغلة، وكان موضوع المكالمة عن وقوع حادث جديد بالطريق راح ضحيته خمسة مواطنين.
-4-
كلفت قسم التحقيقات الذي يرأسه الصحفي الهميم ياسر الكردي، بعمل تحقيق حول الأسباب الفنية التي تؤدي لتعدد حوادث السير المميتة بهذا الطريق المشبع بدماء الضحايا والأبرياء.
فعلاً ذهبت المحررة المتميزة إيمان كمال الدين، إلى الطريق المشؤوم وأنجزت تحقيقاً بديعاً، نُشِرَ يوم 4 مارس الماضي، كان يحمل عنوان (شارع الموت بالخرطوم حوادث تقود إلى الآخرة)!!
-5-
كتبت إيمان في المقدمة الآتي:
(كأن شارع (الموت الحقيقي) – الشهير بطريق الخرطوم مدني – لم يقُمْ بـ(واجبه) تجاه حصد أرواح الأبرياء، ليظهر الآن آخر بعاصمة البلاد أشدّ فتكاً هو الطريق (الإسفلتي) الرابط بين الفتيحاب وصالحة جنوب أم درمان، فإذا كانت الصورة (أصدقُ إنباءً من القلمِ)؛ ها هي الصُّور أمامكم تنطقُ بأفصح من الكلام، فضلاً عن شهود عيان بتلكم المنطقة (المنكوبة) روَوا لنا سلسلة من حوادث المرور على امتداد الشارع، منذ بدء أعمال التوسعة التي تسير بسلحفائية عرجاء)!
وأضافت:
(طريق ذو مسارين، لكنه بلا توريتوارات، مما جعل العربات تسير فيه بصورة عشوائية جداً، بحيث إنها في المسار الواحد تمضي في اتجاهين بلا ضوابط وبسرعة جنونية، لا تتوافق مع طريق تم تنفيذه بمنتهى الفوضى، علاوةً على أنه مُظلم، ولذا تجد السيارات (تتصادم) فيما بينها وتحصد أرواح العباد)!
وذكرت إيمان في تحقيقها:
(عندما كُنا نقف بعربة (السوداني) نرى بالعين المُجرَّدة فظائع الطريق، ونستنطق شهود عيان يوجدون هناك بشكل يومي، جاء إلينا مُندفعاً محمد عبد العليم، وتحدَّث معنا بانفعال شديد؛ كأننا نحن من رصفنا الطريق، قائلاً: أحصينا ثلاثة عشر حادثاً في أقل من (25) يوماً، هذه الحوادث وقعت خلال الأيام الفائتة فقط).
وختمت التحقيق تحت عنوان (من المحررة) قائلة:
(اتصلنا بوزارة البنى التحتية بالخرطوم لنطرح عليهم أسئلة مُلحَّة بخصوص (شارع الموت العاصمي) لكن (الرَجَّالة) قالوا لنا: (الحديث للجرائد لا يتم بهذه الطريقة المُستعجلة، فهنالك طريق طويل لا بُدَّ من سلوكه وصولاً للمُتحدِّث الذي يجيب على تساؤلاتكم). نعم قالوا لنا ذلك وكأنَّ سلوك هذا الطريق يقود إلى المعلومات، وما درَوا أنَّ لنا طرفهم خطاباً مُروَّساً ومختوماً استلموه قبل أسبوعين بخصوص كوبري الدباسين، لكننا ما زلنا نتلقَّى في الوعود السراب!!!!!).
-6-
قبل أسبوع كانت السيدة الفاضلة هويدا عبود، تقود سيارتها عائدة من مناسبة اجتماعية، فإذا بالأقدار تقودها إلى الموت الفاجع في حادث سير على ذات الطريق الذي ظل يحذِّر من مخاطره زوجها ووالد أطفالها الصغار صديقنا (إسماعيل آدم)!
وغداً إن شاء الله للمأساة بقية تُروى.


‫2 تعليقات

  1. شغلتنا السياسة .. ووجعت كل (المفاصل) الصحافة ضمير الشعب .. والصحافة الصاحية هي من تساهم وتسهر هناك وتتحدث وتحقق وتلاحق قبل وقوع (الحدث) وبكل اسف صحافتنا الحالية حالها كحال الكثير من المؤسسات الحكومية مكاتب وادارات وأسماء في حياة الصحيفة او المؤسسة ، فمثلا الصحيفة الكاربة تجد رئيس القسم الإقتصادي في مهنته وهيبته تقول دا وزير المالية!! وكذلك رئيس قسم التحقيقات ، فهنا نجد المسئول يحضر بعد (دخول) السيل للحوش وهنا الصحافة نجدها تحضر صدفة عندما وخاصة عندما يتعرض رئيس التحرير لموقف .. يقوم ويطلب أن تقوم كل القبيلة معاهو. مع الدعاء بالرحمة والمغفرة للشهداء وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان.